إسطنبول مدينة بذاكرة مثخنة بالحكايا تزخم شوارعها بنبض الحياة، عُدّت قبل زمن قِبلة للزوّار والمرابطين.. هي تلك المدينة الكبيرة التي تنبأ الرسول الكريم بفتحها وقد تم ذلك لاحقًا على يد القائد المغوار “محمد الفاتح” عام 857 للهجرة.. ومن خلال دفتيّ كتاب (إسطنبول بعيون عربية)* للأستاذ “عبدالكريم أبوشويرب”، نُبصر إسطنبول أو إسلامبول (دار الإسلام) كما سمّاها الفاتح العظيم بعيون مَن زاروها ووطأت أقدامهم أديمها المفعم.
فهنالك العَالِم والفقيه والرحالة والتاجر والشاعر، من كل لون وصِنف اللذين تمددت خطواتها فرأوا ما فغرت له أفواههم وسلب لبهم من خلال مشاهداتهم وانطباعاتهم الثرية، التي غلبت عليها الدهشة والإبهار لما لمسوه من جماليات تكتظ بها أرجاء المدينة، فحرصوا على التدوين والتسجيل في دفاترهم فأجزلوا لها جميل الوصف حتى أننا لم نكد نشبع من ومضاتهم.
يأخذنا كلّ بضوء عينه وحُسن ذائقته، نذرع الأزقة العتيقة ونتنفس عبق الأمس التليد، نعم هو أمسٌ أسس لمجدٍ صرنا اليوم ننتحب على أطلاله، أيامه ربّت في وجدان آبائنا وأجدادنا رفعة الحق في مرحلة من أزهر المراحل في التاريخ الإسلامي.
نقتفي يراع ما حُبّر على السطور فنلج أعظم المعالم، كآيا صوفيا التي أكد أكثر من زارها على حضورها الطاغي في النفس وسحر عمارتها البديع إذ كانت إبّان الدولة البيزنطية من أعرق الكنائس في العالم وتحولت كغيرها من المعابد المسيحية في أعقاب الفتح الإسلامي إلى مسجد كُلل بضياء الإسلام فنلمس بأيدينا مشاهداتهم ورواياتهم عن إسطنبول ونقف بمعيّتهم على جسر البسفور ونحن فوق نقطة جغرافية تفصل بين قارتين أسيا وأوروبا.
تتدرّج بنا هذه الومضات إلى مراحل متفاوتة من تاريخ هذه المدينة التي يُجمع زوارها على إثارتها لمشاعر الفتنة في نفوسهم، فمن عصر الدولة العثمانية وتشعباتها في الآفاق وصولاً إلى إسطنبول الحديثة وما طرأ عليها من تغيرات دراماتيكية تبنى فيها المجتمع منعطفات جديدة، وبطبيعة الحال ارتد ذلك على سلوك أهلها وطبائعهم وتنوعّت أسماء هذه المدينة فمن القسطنطينية وفَروق وإسلامبول وصولاً إلى أسطنبول المعاصرة …وقد أنشد الشاعر أبو تمام عبر إحدى قصائده في حبها.
كذلك قصور سلاطين العهود العثمانية كقصر يلدز الذي رصد أكثر من رحالة واقع تحوله بعد سقوط الآستانة إلى نادٍ للعب القمار ومطاعم ومقاهٍ تستقطف السوّاح.. مما ضخ الحنين في بعضهم لذاك التاريخ الذي تسيّد فيه آل عثمان صدارة العالم، ويستوقفك الزمن هُنينة عند جزيرة الأميرات لتنشد حُلمك وتُطفئ حُرقة نهار أُهدر في طوابير الإنتظار واللحاق بساعات الصباح الأولى.
مفتاح تركيا مخبأ في أعماق إسطنبول وبين أزقتها الخلفية، ولكي تعرف تركيا عليك أن تمر بهذه المدينة الفسيحة، بهذه العبارة يؤكد كل من زارها، فالمرور بهذه المدينة يجعلك تقبض على أحد أسرار تركيا ولن تلقى جهدًا في التعرف عليها، فرغم تناقضاتها لن تتوانى المدينة عن فتح ذراعيها لزوارها ومريديها، ككتاب مفتوح يتخذ من الجمال والأبهة عنوانًا عريضًا على صدر النهار.
_________________
* كتاب (إسطنبول بعيون عربية) للدكتور “عبدالكريم أبوشويرب” من منشورات موقع بلد الطيوب.
لتحميل الكتاب الرجاء الضغط: هــــــنــــــا.