د.أحمد الزبيدي – العراق
ميّز دي سوسير بين (اللغة) باعتبارها (نظام علامات مستقلة عن مدولولاتها الخاصة) والكلام (مجموع هذه الدلالات في تشعباتها)، وعليه فاللغة نظام جمعي، والكلام نشاط فردي..
ولو عكسنا تلك الثنائية على الشعر لوجدنا أن (اللغة = الموهبة) و (الكلام = الفرادة)؛ ولو تعمقنا بالفرضية أكثر وسلطنا الضوء على الشعر العراقي الحديث ، بغية اكتشاف التمايز الأسلوبي، الذي يمنح الشاعر فرادته و(هويته الشعرية) الخاصة، فأي الشعراء بقي قيد (اللغة = الموهبة) وأيهم نال حظ (الكلام = الفرادة)؟..
قراءة الشعر العراقي، نقديا، تفتقر إلى المعالجة الأسلوبية الكلية، وهيمنت عليها ظاهرة الأجيال الشعرية التي أكلت كثيراً من جرف (الكلام = الفرادة) وعززت (اللغة = الشعر)، فضلا عن هيمنة الآيديولوجيات السياسية التي تدخلت في تحديد البوصلة النقدية لصالح النظام الشعري الجمعي المناصر للسلطة وحاربت الكلام الشعري ونظامه المتفرد..
حين تحدث النقاد عن امرئ القيس قالوا عنه : أول من استوقف الصحب وأبكى الديار وقيّد الأوابد وأول من شبّه النساء بالظباء والخيل بالعقبان) وكان الأعشى (أذهبهم في فنون الشعر) والنابغة (أحسنهم ديباجة شعر).. الخ من الأحكام التي تخص (الكلام = الفرادة الأسلوبية) ضمن (اللغة = الشعر) بغض النظر عن المواقف النقدية المؤيدة أو غير المقتنعة بهذه الأحكام، المهم أنها أحكام تخص التمايز الأسلوبي ضمن معطيات شعرية كلية.
وحين تحولت بوصلة الشعر من العمودي إلى الحر، اختفت، تلك الأحكام، نسبيا، ولكن هل اختلف التمايز الأسلوبي بين الشعراء؟ صحيح أن تحول النقد من المعيارية إلى الوصفية أسهم في الاختفاء، ولكن هذا لا يعني هيمنة ظاهرة التمايز الأسلوبي. ألم يعترف النقاد المحدثون أن أول من انتهج أسلوب القناع في الشعر الحديث هو السياب؟ ألم يقل مدني صالح بأن السياب مطبوع والبياتي مصنوع؟.. نعم بدأت شيئا فشيئا تضعف الفرادة الشعرية، وحتى ما جهر به الستينيون بتحديث القصيدة وتشذيبها من الرومانسية الغنائية التي تسربت إلى الرواد لكنه حديث بيانات شعرية ومؤازات نقدية، وقد تنازل عن هذه الاحكام أصحاب البيان نفسه، أعني الشاعر الراحل خالد علي مصطفى، الذي اعترف بأن السياب هو أشعرهم جميعا والمتفرد.. وهذا ما أكده الناقد الكبير فاضل ثامر في كتابه ( شعرية الحداثة) بأن كل الأشكال الشعرية الحديثة تعود للسياب..
انشغل الشعراء بظاهرة الأجيال (اللغة) فضعفت (الفرادة/ الكلام/ الأسلوب) وما أظن أن المحاولات الباحثة عن التمايز الشعري جاءت بتحولات جمالية خاصة.. وحين ظهرت مجموعة شعرية وتقنصت العودة العمودية ظنا منهم القدرة على خلق فرادة أسلوبية، فأنهم وقعوا في فخ (اللغة) ولما يقدروا على نسج ( كلام) خاص بهم،وعليه تمثل التمايز في بنية الموضوع والظواهر العامة، فاختلطت قصيدة التفعيلة بالعمود والنثر بالتفعيلة والنثر كذلك بالعمود وضاعت الفرادة بين لحى اللغة..