محمّد نجيب عبد الكافي
… وكلاء الوزارات
إن السّائد بين الناس جميعا – عند الحديث عن وزارة ما – ربطها وربط إنجازاتها بالوزير، الجالس على عرشها. ذلك حقّ من حقوقه لا نقاش فيه، لكن فيه غُبن ونسيان، أو تناسٍ، لجيش من الموظفين متخصّصين وغير متخصّصين، إداريين ومخططين، يعملون وراء الستار، بهم يكون الإنجاز بنجاحه أو فشله. أبرز مسؤول وسط ذلك الجيش، والمسؤول الأول على سيره ونشاطه وإنجازاته، هو وكيل الوزارة، أي محرّكها الأساسي، مسيّرها على الدّرب المسطّر نحو الهدف المُبتغى. إنه بكلمة أوضح المُنَفذ الأوّل لسياسة وبرامج الوزارة، فلا مبالغة في اعتبار رئيسه وزيرا مسؤولا، ونعته هو بالوزير التنفيذي. أيّا كانت التسمية والنعوت، فلا حاجة لكثير الإيضاح كي نعلم أنّ وكيل الوزارة، هو العامل الفعّال في كلّ ما هو راجع للوزارة ومخططاتها. سنحت لي حاجيات وضعنا كلاجئين، وظروف الحياة ومتطلباتها أن أتصل وأتعرّف، وأتعاون أحيانا، مع عدد من وكلاء الوزارات سعدت بمصادقتهم، فكان لي ذلك فصلا آخرا من فصول مدرسة الحياة، اجتزته بنجاح لوفرة ما حزته وحصلت عليه من المعرفة وفلسفة الحياة. سأحاول في هذه الزفرات التذكارية، رسم، ما انطبع في ذهني وذاكرتي، من صور أولائك الأصدقاء كما عرفتهم…
الهمز واللمز: ليس عبثا توقفي برهة كي أنتحل دور الواعظ، ولست واعظا، لكني كما قال الشاعر: يا قوم إني بشر مثلكم ولي فؤاد مثلكم شاعر. والبشر خير وشر حتى قال بعضهم “البشر ثلثاه شر”. لكن منحنا الله دينا يسمو بالأخلاق، ولنا أسلاف تركوا ما يكفي من تربية وتهذيب، ومبادئ تنهى كلها عن المسّ بالغير والتفرقة بين الناس. “ويل لكل همزة لمزة”، ومع هذا لم تخل مجتمعاتنا من إشاعات وأوصاف وأقوال عن هذا وذاك، هي في الواقع مبنية على مظهر، أو خمن، أو سوء تفسير، فتبعد كل البعد عن الحقيقة. أقول هذا لأني خلال قرابة العقدين اللذين قضيتهما في ليبيا، كثيرا ما سمعت نقدا أو لوما أو أوصافا ونعوتا تُرمى بها أشخاص فإذا هي، بعد اللمس والجس والتجربة، فعلا لا قولا، تبيّن لي بدليل أن ما كان يقال أو يُدّعى بعيد كل البعد عن الحقيقة والواقع. عدد من ضحايا هذه النميمة، أو الظنّ الخاطئ، مسؤولون خبرتهم، فوجدت فيهم عكس ما سمعته وشاع. أغلق الآن هذه النافذة بهذاالبيت: (جراحاتُ السِّنانٍ لها التئام *** ولا يَلتامُ ما جرَح اللسانُ)، لأعود فأقدّم الوكلاء الذين اقتربت منهم، مُتّبعا تسلسل تاريخ اتصالي وتعرّفي…

– الكعبازي
أوّل من سعدت بالتعرف عليه من وكلاء الوزارات هو الأستاذ فؤاد الكعبازي. عرّفني به خلفه، على رأس وكالة التنمية والاستقرار الأستاذ محمد المرابط فكان لقاء خاطفا تكرّر، مرّات خاطفات هي الأخرى، بعضها تحية بإشارة من اليد وكلانا يجري وراء مهماته. لكن لمّا زارني الدكتور صالح المهدي الموسيقار التونسي القدير، عازف الناي الشهير، طفت به ليتعرّف على المنتسبين إلى الموسيقى والغناء ختمتهم بمحمد مرشان لمعرفته كتابة الصولفاج، وبزيارة محطة الإذاعة بشارع الزاوية. طلبت بعد ذلك موعدا للقاء الاستاذ الكعبازي، لأنه كان الباعث والمسؤول الأول على الإذاعة، وكان حدسي يتكهّن لي بأن صالح سيعيّن على رأس إدارة الفنون الجميلة بوزارة التعليم لأول حكومة تونسية صرفة، وهو ما لم يصدّقني فيه صالح نفسه، وأثبتته الأيام، وكانت غايتي من وراء ذلك اللقاء، إقامة تعاون بين تونس وليبيا وهو ما تمّ والحمد لله. استقبلنا الأستاذ كعبازي بأدبه ورقته، فدام اللقاء أكثر من ساعة اكتشفنا أثناءه إلمام مستقبلنا إلماما واسعا بالموسيقى وما إليها، حتى من علم مخارج الحروف. خرجنا من مكتبه معجبين، وبعد خطوات قال صالح: انطباعي الأول هو أن السيد فؤاد ينزلك منزلة عالية من نفسه، كما أرى أنّ الإذاعة، به وبأمثاله، بأيد أمينة. هكذا كان، ومع الأيام توطدت صلتي بالأستاذ فؤاد خاصّة عبر الإذاعة وما قدّمتُه لها وبها.
في الذاكرة المزيد من الارتسامات فلي عودة إن طال العمر.