من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
مختارات

البناء الثقافي: الخطاب، التدبير بين القراءة والتأويل

.

حسن الأكحل

.

تعالت في الأونة الأخيرة بعض الأصوات التي تطالب بإعادة الإعتبار للشأن الثقافي في المغرب، أو بصيغة أخرى وضع ميثاق وطني للثقافة، وبالرغم من تقديرنا لهاته الآراء، فإنها تجانب الصواب في ملامستها للشأن الثقافي، وتعجز عن تفكيك شفرته وضبط ميكانزماته.. فالشأن الثقافي هو ذلك الجزء اليسير من الفعل الثقافي الذي يشكل إطارا متجانسا لكل التمظهرات والتمثلات على مستوى إنتاج القيم، وتدبير العلاقات، وتمثين التواصل داخل منظومة مجتمعية مركبة، حيث يعد البناء الثقافي أحد أعمدتها المحورية، وبالتالي فإن البناء الثقافي والسؤال الثقافي والإشكالية الثقافية هي مفاهيم سوسيولوجية بحمولات ودلالات متعددة.

البناء الثقافي هو ذلك المركب العمودي الذي ترتب فيه الأدوات والمناهج والآليات والوسائط وأنماط الإنتاج، والإستهلاك والتواصل، والمعرفة والمعاش، والعمران ونظم العلاقات الفردية والجماعية، وتسيير المدن والبوادي، ونظام الري والزراعة والمقاولة، ومسالك التعليم التربوي وكافة مستوياته، والحرف التقليدية والحلي والتراث المادي وغير المادي، والتعابير المجتمعية وغيرها من رواسب الزمن الماضي، وأدوات الحاضر واستشراف المستقبل.

أما السؤال الثقافي فهو ذلك التحليل الأفقي لكل مظاهر البناء الثقافي وأنساقه المتعددة على مستوى التفاعل والإنصهار والإندماج داخل محيط سوسيولوجي يزداد تعقيدا مع كل التحولات الكرونولوجية والمنعطفات الدقيقة، وبالتالي فالفعل الثقافي هو الذي يحدد منهجيا طبيعة البناء الثقافي وتحولاته التاريخية وقدرة الرقعة الجغرافية على ضبط إيقاعه وتموجاته.. فالهزات العنيفة والرجات القوية التي شهدها المغرب مند القرون الوسطى إلى البدايات الأولى من القرن التاسع عشر لم تؤتر في بنائه الثقافي، ولم تفكك ميكانزمات علاقاته المجتمعية، بالرغم من المحاولات المتعددة لتغيير بنياته الثقافية.

ومكونات البناء الثقافي في جزئياتها البسيطة، تتمدد مجاليا على مساحة جغرافية واسعة، وعلى تأطير فكري وتربوي ومعرفي ضخم، يسيج مختلف الأنساق والتحولات المجتمعية وعلاقاتها أفقيا وعموديا، فالزاوية والمسيد ومختلف وسائطها ورموزها المتعددة (الشيخ – المريد – الأتباع – الفقيه – الطلبة) ومجالات امتدادها الجغرافي (البادية – المدينة – السهل – الهضاب – الجبل – الواحات – والصحاري) وتعدد وظائفها الإقتصادية والإجتماعية، تمثل الإطار الحاضن لمختلف التحولات على مستوى إنتاج القيم، كما أن دورها الفكري في مختلف التحولات التاريخية شكل وعاء لتأطير المجتمع، وصيانة هويته وتحديد ميولاته. وبالتالي فإن علاقاتها مع مختلف مكونات المجتمع كان يطبعها الإنسجام والتجانس، وهذا ما يسر عليها عملية الإختراق والإحتواء لكل التيارات والأفكار الهامشية على المجتمع، كما أن وحدة العقيدة والمذهب أسهما بشكل قوي بالدفع بها نحو صياغة مقاربة تشاركية ما بين الإندماج والتأتير، وترتيب العلاقة داخل المجتمع من خلال خلق نوع من التجانس التركيبي بين سلطة الروحية والمادية، وأنماط معاشه وعمرانه، كما هو الشأن عند الحرفيين والصناع وأهل الحنطة والفلاحين وكبار الملاكين والأعيان والتجار والعدول ونقباء الشرفاء وغيرهم من الوسائط، داخل نفوذها المادي والرمزي.

أما المضمون الجغرافي للتوزيع المجالي فهو محدد أساسي في البناء الثقافي. فالقبيلة كمكون رئيسي في المجتمع وتركيب بشري تتداخل فيها عوامل متعددة، ويؤطرها منظوم متكامل تنسجم فيه آليات الإنضباط والتحكم في مختلف مراحل الزمان والمكان، مابين وفرة الإنتاج والرعي والإدخار والإمتداد في المجال مابين السهول وطبيعة الهضاب وقساوة الجبال، والسلط الرمزية التي يمثلها الأعيان والنسب أو الروحية التي تتجسد في الشريف أو شيخ الزاوية أو الفقيه (المسجد أو المسيد) تشكل استمرارا ماديا ومعنويا لإمتداد نفوذها في مختلف حالات الإنقسام والتوحد والإنكماش والإنغلاق، ويشكل انفتاحها على المجال الخارجي المواسم الدينية والأسواق الأسبوعية والحج مصدر قوة وعامل نجاح لها، هذا دون أن نغفل أن موقعها الطبيعي في محيط البادية يسمح لها في التفاعل مع سلط رمزية ووسائط أخرى تسهل لها عملية الإنتشار والإستمرار في انسجام تام مع مضامينها الجغرافية، إلا أن الإنتقال إلى الحضر (حسب ابن خلدون)، يشكل العمران ونمط العيش والتجارة أهم رافد من روافد التكامل بين البادية (القبيلة) وغناها الزراعي وحمولاتها الفكرية والمادية والمدينة كنقطة استقطاب وادخار عن طريق التجارة والعلم والمعرفة دون أن يتناقض دورها الوظيفي مع مكوناتها الإقتصادية والإجتماعية (العلماء – الأعيان – أمناء المراسي – التجار – العدول – النساخين – الحرفيون وغيرها…).

إن هذه الثلاتية التي تتحكم في البناء الثقافي هي التي تحدد الإطار المرجعي لكل التحولات المجتمعية في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والإقتصادية وهي: السلط الروحية – الوسائط المادية والرمزية – آليات الضبط و طبيعة المجال (القبيلة، البادية، المدينة).

إن أي قراءة لأوضاعنا الثقافية والإقتصادية والإجتماعية لايمكن أن تتجاهل هذه الجزئيات لأنها تشكل المرجعية الرئيسية في البناء المجتمعي وهذا ما حكم على كل الخيارات والطروحات التي تبنتها العديد من منظمات المجتمع المدني بالفشل لأن مشاريعها المجتمعية لم تدمج البناء الثقافي ضمن إطارها التنظيمي وهذا يحيلنا إلى غيرها من التجارب في عدد من دول المعمور كما حدث في أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين وانفصال عدد من الجمهوريات على الإتحاد السوفياتي سابقا لأن معظم هذه الدول حافظت على بنائها الثقافي الذي ظل صامدا وقويا بالرغم من المد الفكري الذي أوجدته الإديولوجية الإشتراكية التي غيرت أنماط الإستهلاك ولم تنجح في اختراق البنيان المجتمعي المبني على أنساق ثقافية معينة.

إن التأويل الموضوعي لمختلف القراءات المطروحةحول قضايانا الفكرية والثقافية ينبغي أن يؤمن بالسياق التاريخي للبناء الثقافي الذي هو مضمون مجتمعي بدلالاتمتعددة وحمولات فكرية بمقومات أساسية تشكل العقيدة والجغرافية أهم مكوناتها دون أن نتجاهل دور المؤسسات الرمزية والوسائط المادية التي أصبحت جزءالايتجزء من هذا البناءالثقافي.

عن موقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

زمالة عمي القاضي

المشرف العام

ملتقى جيلاني طريبشان.. “الأدب للحياة”

المشرف العام

وين الغالي يادار

المشرف العام

اترك تعليق