في مقالة سابقة تحدثت عن ذلك المعلم الذي كان يمرر سؤالا بسرعة على التلاميذ في فصلي، ومن يتأخر في الإجابة يصفعه مباشرة وينتقل إلى التالي ، وحين وصلني السؤال أجبت بسرعة وتوقف سيل الصفعات في ذلك الفصل البارد بمدرسة القيقب الابتدائية، والآن أدرك أن الخوف وحده هو الذي ألهمني تلك الإجابة السريعة التي لم تكن في خاطري حين صفع التلميذ قبلي . كانت الإجابة “لأنه يعديني”، أما السؤال فلا اتذكره أبدا. “بهذه السرعة يعمل الأردينالين فيحفز الخوف الذكاء وقوة الشكيمة”. كما يقول باتريك زوسكيند في روايته “الحمامة”.
من أشهر الصفعات في التاريخ صفعة تعرض لها تلميذ اسمه (جاوس) في إحدى القرى الألمانية الباردة في القرن السادس عشر، حيث كان الطفل جاوس تلميذا ذكيا يجيب بسرعة عن أي سؤال يطرحه معلم الرياضيات ، ما يجعله يحرم التلاميذ الآخرين من التفكير في الإجابة، وقرر المعلم أن يطرح سؤالا صعبا وعصيا على التلميذ الذكي كي يلهيه ويتفرغ للتفاعل مع بقية التلاميذ، وطرح مسألة حسابية مفادها: اوجد لي ناتج جمع الأعداد من 1 إلى 100 ؟ . وعم صمت لمدة خمس دقائق، بعدها أجاب جاوس : 5050 . فصفعه المعلم على وجهه، وقال له : هل تمزح ؟ أين حساباتك ؟ فشرح جاوس العلاقة التي اكتشفها بين الأرقام من 1 إلى 99 والقانون الذي اجترحه في ذهنه لحسابها . فاندهش المدرس من هذه العبقرية ولم يكن يعرف أنه صفع العالم الكبير (كارل فريديريك جاوس)، أحد أشهر ثلاثة علماء في الرياضيات.
صفعةٌ عن صفعة تفرق، فمعلمنا في القرية الليبية كان متوترا في ذلك اليوم وراغبا في أن يهدي توتره باصطدام كفه بأكثر وجوه ممكنة في ذلك الفصل البائس الذي يتكدس فيه تلاميذ بائسون. كان معلمنا يصفع بسبب الجهل بالإجابة، والمعلم الألماني الذي شاء القدر أن يكون في فصله تلميذ عبقري يصفع بسبب الإجابة العبقرية.
يذكر جاوس تلك الصفعة بفخر كبير لأنها في النهاية مست كرامة السلطة المتمثلة في المعلم الحانق، ولم تمس كرامته الشخصية، ويذكر رفاقي تلك الصفعات المجانية بهوان لم تترك مجالا لكرامة اليد الصافعة ولا للوجوه المصفوعة.
في جميع الأحوال لا شيء يهين المرء أكثر من صفعة على الوجه، فكل أساليب الضرب والعنف مقبولة سوى أن يصفع الإنسان فجأة على وجهه، تلك المساحة التي تحدد هوية الشخص والتي تستوطنها كل حواسه التي بها يتعرف على العالم. الوجه بورتريه الذات الذي رسمه الخالق دون أن يكرره، فلا وجه يشبه وجها آخر فوق الأرض وعبر الزمن، الوجه بصمتنا ومدخلنا إلى التواصل مع الآخرين، به نرى ونسمع ونشم ونذوق ونضحك ونبكي.
تعتبر صفعة جاوس أشهر صفعة في تاريخ الصفعات الناصعة، لكن بعدها، أو بعد أربعة قرون، تدخل التاريخ صفعة أخرى شهيرة، هذه المرة لن تتوقف داخل الفصل أو في ذكريات شخصية، لكنها تقلب الدنيا ولا تقعدها. إنها صفعة الشرطية لبائع الخضار، محمد البوعزيزي، على رصيف تعيس من أرصفة بلدة سيدي بوزيد التونسية.
هذه المرة للصفعة معان وظروف مختلفة، فهي في الشارع على الملأ، وهي بسبب مخالفة شاب فقير لقوانين البلدية من أجل أن يطعم عائلته، والأهم من ذلك أنها بكف امرأة على وجه رجل في منطقة تعتبر تقاليدها صفع المرأة للرجل مهانة كبرى ومصدر عار أبدي، والأكثر أهمية أنها وقعت في عالم رقمي من الممكن أن يحيل تفصيل فوق رصيف منسي إلى حدوثة عالمية تتابعها الدنيا كلها.
البوعزيزي المسالم والملتزم بتقاليد مجتمعه الصغير الذي أيضا يزدري ضرب المرأة، لم يرد الصفعة بصفعتين أو حتى بواحدة، لكنه أحس في تلك اللحظة أن حياته يجب أن تتوقف عند هذا الحد، وتوقفها يتطلب أيضا عقابا لهذه الذات الخانعة الراضية بالفقر رغم أن الفقر لم يرضَ بها، فاختار حرق الجسد المهان المدنس بالنار كطريقة للتطهر، أو للثأر منه.
لم يفكر البوعزيزي لحظتها في أن يشعل ثورة، أو ينهي نظام حكم، أو يغير المنطقة برمتها. ببساطة سكب الوقود على ملابسه وأشعل النار في نفسه أمام مبني البلدية وفي المكان الذي سفحت فيه كرامته على الملأ .
المفارق أن رئيس الدولة البوليسية، بكل جلال قدره، يزور مواطنا أو رماد مواطن محترق ليعتذر عن الصفعة التي قامت بها ممثلة لمؤسسة تتبع نظامه القمعي، حيث كل المؤسسات تعمل من أجل تلميع القصر في دول الاستبداد.
لكن تلك الزيارة الفريدة من نوعها تأخرت ، فالنار خرجت من قمقم جسد البوعزيزي لتلتهب في كل المدن، ولتتجاوز الحدود التونسية إلى المنطقة ولتتساقط جراؤها الأنظمة الدكتاتورية واحدا واحدا . وكان البوعزيزي سارق النار الكادح الذي أيقظ سؤال الكرامة الشخصية من رماده.
لذلك على كل يد أن تتردد كثيرا قبل أن تتوجه إلى وجه إنسان بصفعة، أي إنسان، لأن الوجه معقل الكرامة الإنسانية ومركز الهوية، ومن هناك تنبثق الابتسامة ودموع الحزن والفرح ومن هناك يغرد الناي بألحانه، ومن هناك يُنفخ في جمرة فتحرق غابة.
البوعزيزي فقير لكن جمر كرامته مازال دافئا تحت رماد الهوان، والشرطية التي ترى بعيون السلطة تجاوزت حدود القانون واستخدمت يدها مباشرة مثلما السلطة تستخدم يدها قبل القانون، والشرطية، مثل السلطة، لم تر شيئا يشوه منظر الوطن أمام السُيّاح سوى عربة خضار لشاب عاطل لا يملك قوت يومه، ولا يملك سيفا يخرج عن الناس به. فكان …
“كل شيء في الوطن على ما يرام
الصبر على ما يرام
الهدوء على ما يرام
الصمت على ما يرام
لكن الفتى الفقير يعكر صفو المدينة الفاضلة
وهذه العربة الملعونة
تخدش حياء السلطة
تجرح عين السائح
وتطعن جمال الوطن السعيد.
كان الفتى جرحا ينز من خاصرة النظام
لكن الصفعة لم ترَ الجرح النازف في روح الفتى
لم ترَ القداحةَ ولا لهبَ الموقد ولا شجرةَ الصبار ..
علمتها الوصايا الرشيدةُ
أن لا ترى الإنسان سوى في الأختام
أن لا ترى النجوم سوى على الأكتاف
أن لا ترى الأخطاء سوى في العربات الصغيرة
أن لا ترى الوطن سوى في الصورة
المعلقة خلفها على الجدار”
*من قصيدة “بائع الخضار” ديسمبر 2010
______________