الكلاب في مدينتنا لها سطوة عجيبة، والناس في الغالب يستهويهم عشق كل عجيب وغريب، ومن عادة بعض أبناء مدينتنا عشق الكلاب، والحنين إلى عوالمها، رغم كل شيء تقريباً … رغم كل شيء… حتى وإن كان هذا الشيء، منح هذه الكلاب صكوكاً على بياض، للتصرف كما يحلو لها، دون أي اعتراض من أحد، خصوصاً إذا كان هذا الأحد لا يملك أي كلب قرب باب بيته، أو مجرد جرو هزيل يجعله في عداد أصحاب الكلاب، العارفون بأسرارها وقوانينها، التي سنها حكيم بدوي، أجبر خصومه على الإمساك بذيل أطول كلابه بطريقة عمودية، وغمره بمحصول قريتهم وكل القرى المجاورة من قمح البرية المحصود بمناجل لامعة تحت ضوء القمر، وعندما لمح نظرة الانكسار في عيون غرمائه، أصدر حكمته الذهبية
” لا تضرب كلباً، قبل أن تعرف صاحبه ” !!
ورغم أن الكلاب ـ كما هي الآن ـ لم تكن تحمل هوية أو علامة، أو وسماً يميزها عن بعضها البعض، أسوة بكل حيوانات القرى الموسومة بندبة معينة، تحدد هويتها أو هوية مالكها على الأقل .
فالإبل في الصحراء المتاخمة للقرى، تحمل شفرة على أفخاذها تلوح من بعيد، والأبقار في الحظائر توشى رقابها بشفرة مشابهة، وأغنام المراعي تغطي نصف أصداغها علامات مماثلة، وكذلك الماعز والخيول وبعض الحمير … كلها لم تنج أجسادها من الكي والدمغ بمياسم حديدية محماة على جمر ملتهب .
وحدها الكلاب فقد حُرِّمت أجسادها على نيران القبائل، خوفاً من لعنة سلطان الحكمة، الذي أطلق فتواه الذهبية ورحل بعد ثلاثة أهلة كاملة، ولم ينتظر مواسم المطر التي لم تصب القرى، منذ أُغلق عليه قبره، وأثقلوه بحجارة من صوان .
تقول الأسطورة: أن كلباً من سلالة أطول الكلاب وجوهاً، ظل قائماً على رمس الحكيم حتى صرعه الكمد والجوع، فقرر وجهاء القرية دفنه جنباً إلى جثة الحكيم تكريماً لوفائه، وظلت الكلاب في مدينتنا منذ تلك الحادثة ” تمذرح ” بأذنابها في خيلاء، وتطيل من إخراج ألسنتها في وجوه المارة والسابلة، مستمدة سلطانها من بركة الحكيم حتى الليلة القادمة، لدرجة أن الحاجة (عصرانة) أقسمت أنها رأت فيما يرى النائم قطيعاً من الكلاب يمتطي أرتالاً من السيارات الصحراوية ذات الدفع الرباعي يتجه نحو الجنوب، ويرفعون عقيرتهم بأغاني ” العلم ” في رابعة النهار، وأنهم حينما اقتربوا من أعمق بئر صحراوي، ألجموا خطام رواحلهم الحديدية بعد أن أناخوها باتجاه مطلع الشمس، وراحوا يمارسون طقوساً بدائية،ثم خلعوا ذيولهم المقوسة و طاروا في السماء .
منذ تلك الليلة والناس في مدينتنا مولعون بالتنزه صحبة كلابهم في الحديقة المجاورة لبيت الحاجة (عصرانة) والتي قليلاً ما تغادر نافذتها المطلة على أطول شوارع الحي لتروي للعابرين ما تراه في منامها كل ليلة، و تمسِّد بيدها الواهنة المتغضنة ظهور الكلاب التي يأتي بها أصحابها طلباً للنصح، مخافة أن يتورطوا في شرائها، قبل أن ينفحونها بعضاً مما تجود به جيوبهم ويغادرون، ثم تضع تبرجها لزوجها الشايب وتستغرق في حلمها القديم بوجه صبي يساعدها في إيقاد السراج .
بنغازي 5-1-2010م