كانت قصص وهبي البوري عندما قرأتها في عام 1980 في اعداد مجلة ليبيا المصورة الصادرة في عقد الثلاثينيات مفاجاة لي ، حيث لم اكن قد قرأت شيئا لهذا الكاتب القصصي ، ولا لاي كاتب قصصي غيره من ابناء تلك المرحلة ، بل لم اكن اعلم بوجود مثل هؤلاء الكتاب عدا اسطر قليلة وردت في مقال للدكتور عبد القادر القط حول بدايات القصة القصيرة في ليبيا تشير الى محاولة قصصية او محاولتين باعتبارهما ارهاصا بمولد قصة ليبية ، ثم انتقل للحديث عني وعن ابناء جيلي من امثال الكاتبين الراحلين كامل المقهور وبشير الهاشمي ، وكانت النقطة المرجعية في بدايات القصة الليبية ، التي يعود اليها الباحثون هي اول مجموعة قصصية ليبية اصدرها عام 1957 الكاتب الليبي الراحل الاستاذ عبد القادر ابوهروس بعنوان نفوس حائرة، وهذا ما اعتبرناه جميعا التاريخ الرسمي لبداية ظهور القصة الليبية القصيرة ذات الشكل الفني ، كما صدرت في ذات العام مجموعة قصصية اخرى ولكنها لم تكن قصصا حديثة وانما تجميع لذكريات واعادة سرد لبعض القصص الشعبي من تاليف الاستاذه الراحلة زعيمة الباروني بعنوان “من القصص القومي ” ولكنه كان من الصعب اعتبارها مجموعة تنتمي للقصة القصيرة بشكلها الفني الحديث ، وظلت مجموعة نفوس حائرة في حساب المؤرخين هي البداية المعتمدة للقصة القصيرة ، وعندما يغضون البصر عن الكتب ويرجعون الى ما نشرته الصحف فهم ايضا لا يبتعدون كثيرا عن هذا التاريخ الا انهم يضيفون لاسم عبد القادر ابوهروس اسماء كتاب عالجوا القصة من ابناء جيله ، في وقت متزامن مع كتابته لها ، ويذكرون كتابا مثل محمد فريد سيالة وخليفة التليسي ويوسف الدلنسي وطالب الرويعي ، وفي كلا الحالتين لم يكونوا اطلاقا يعودون الى ابعد من عقد الخمسينيات باعتباره عام انبعاث السرد الحديث في شكله القصير في ليبيا.
قرات قصص وهبي البوري فاندهشت للمستوى الراقي الذي كتبت به ، واندهشت مرة ثانية لانها لم تكن قصة او اثتين ، وانما وجدته ينشر في ليبيا المصورة فوق عشر نصوص ، وهو عدد من القصص يوازي العدد الموجود في اول مجموعة قصصية منشورة بعده بعشرين عاما ، أي نفوس حائرة ، ثم ان مستوى ما كتبه وهبي البوري يكاد يتفوق فنيا على القصص الواردة في مجموعة نفوس حائرة ، واكثر من ذلك فان مستواها لم يكن يقل اطلاقا بل كان يواكب ويوازي في مستواه ما كان ينشره رواد القصة القصيرة في العالم العربي امثال محمود تيمور ويحي حقي وتوفيق الحكيم وغيرهم من كتاب الثلاثينيات، كانت القصص بالنسبة لي اكتشافا ، وكانت كنزا لابد من اظهاره الى الناس لتعرف الحركة الادبية الليبية ان تاريخ كتابة القصة الليبية ذات المستوى الراقي في الشكل والمعالجة والمضمون يعود الى بدايات القصة في مصر ومراكز حضرية في الوطن العربي ذات ثقل ثقافي مثل بيروت وبغداد ودمشق ، وانتظرت الى حين اكتملت لدي القصص التي عثرت عليها في اطار اعدادي لاطروحة دكتوراه الدولة التي قدمتها لقسم الدراسات الشرقية في جامعة ادنبرة تحت اشراف استاذي الذي رحل عن عالمنا فيما بعد الدكتور ماكدونالد . المهم انتظرت حتى اكتملت القصص لدي كما اكتملت اطروحتى عن القصة القصيرة وناقشتها وحصلت على الدرجة الدقيقة في الادب ، ثم اعددت كتابا بمجموع هذه القصص ووضعت لها عنوانا هو قصص الدكتور وهبي البوري مع مقدمة للدكتور احمد ابراهيم الفقيه وسطر يقول بانها بدايات القصة الليبية وقدمت المخطوط لصديقي الاديب الراحل محمد احمد الزوي الذي كان في مطلع الثمانينيات مديرا للمنشاة العامة للنشر والتوزيع التي اطلق عليها فيما بعد دار الجماهيرية ، وتركت عنده المخطوط لاعود اليه واجده يسالني تغيير العنوان ، لان اسم وهبي البوري على الغلاف قد يثير مشاكل مع رقابة المطبوعات في تلك المرحلة المعروفة بالاحتقان السياسي فيحدث عرقلة اوتاخير للكتاب وهو حريص مثل حرصي على ان يرى الكتاب النور ، وترددت قليلا لان تغيير العنوان يسلب صاحبه حق التنويه باسمه كصاحب لهذه القصص رغم بقاء هذا الاسم فيما يلى الغلاف وحقه محفوظ والتنويه به والاشادة بعمله تملأ صفحات المقدمة ، الا ان الصديق الراحل كان مصرا دون ان يفصح ان الرقيب فعلا راي المخطوط وان الملاحظة قادمة منه ، وكنت اعرف مدير الرقابة في تلك الفترة وهو صديقنا الاديب والقصاص الراحل والمبدع الكبير الاستاذ بشير الهاشمي ، ورغم براعته ككاتب واديب الا انه كان للاسف البالغ شديد الارتياب والتوجس ، يجد شبهة انحراف عن الخط السليم في اكثر الخطوط استقامة ، مما جعلني شخصيا اصطدم به وابلغه صراحة اسفي لهذه العقد التي تتحكم فيه وهو الكاتب الجدير بان يكون اكثر نزاهة وامانة مع زملائه الكتاب ، المهم انني بعد الحاح من محمد احمد الزوي ، ادعنت لرأيه ووافقت على تغيير العنوان الى بدايات القصة الليبية .
والكتاب موجود في المكتبات العامة بعد ان نفد توزيعه من مكتبات البيع دون ان يعاد طبعه ، الى ان قام الكاتب نفسه فيما بعد بطبع جميع قصصه في كتاب صادر عن مجلة المؤتمر بعد صدور كتابي الذي يحمل قصص وهبي البوري بعشرين عاما.
والحقيقة ان الكتاب كان مفاجاة للحركة الادبية ، وكان من ضمن الذين ابدو دهشتهم الكاتب الكبير المرحوم عبد الله القويري وهو احد الرواد الكبار للقصة الليبية الحديثة ، وكان ربما اكثر دهشة منا جميعا ، لانه كما يقول كان يعرف ان للاستاذ وهبي البوري علاقة بالكتابة في شبابه ، الا انه لم يكن قد طالع شيئا من هذه الكتابات وكما قال لي التقى بالاستاذ وهبي البوري في اطار العمل الوظيفي الذي استلمه في فترة من الوقت في الستينيات وكان وزيره المباشر هو الاستاذ وهبي البوري وكان على اتصال دائم به باعتباره صاحب وظيفة سامية مع الوزير وكان يقضي معه وقتا طويلا خاصة في الفترات التي تنتقل فيها الحكومة الى مدينة البيضاء حيث هناك فائض من الوقت للدردشة والجلسات الخاصة وكانت دهشته كبيرة ان الاستاذ وهبي البوري وهو المؤسس والرائد الحقيقي للقصة القصيرة ، وفي حضور عبد الله القويرى الذي كان في ذلك الوقت ملء السمع والبصر ، نشاطا وكتابة في هذا المجال ، لم يخطر للاستاذ وهبي البوري ان يشير الى هذا الماضي الذي يربطه بهذا اللون الادبي او يكون موضوع حديث له مع عبد الله القويري ،وطبعا لم يكن الاستاذ القويري قادرا على يفتح معه الموضوع لعدم علمه بان للاستاذ البوري مثل هذا الاسهام المهم والمتفوق في نفس اللون الادبي الذي تخصص القويري في كتاباته ، وهي مفارقة اسجلها هنا باعتبارها نوعا من الشهادة ، لاثنين من نوابغ الادباء رحلا عن عالمنا بعد ان اسهم كل منهما في اثراء واغناء ووضع لبنات تاسيسية في هذا المجال الادبي ، رضوان الله عليهما .
وانطلاقا من هذه الحقيقة ، حقيقة هذا الانقطاع الذي حدث لتواصل الاستاذ وهبي البوري مع عالم الكتابة الى حد ان الاجيال التي جاءت بعده لم تكن على علم بهذه الجهود التاسيسية الرائدة في مجال القصة القصيرة ، فقد انقضت فترة طويلة شابتها حرب عالمية ، ثم انتهاء فترة الاحتلال الايطالي وقبلها انتهاء وتوقف مجلة ليبيا المصورة التي نشرت كتابات وهبي البوري ، ثم ميلاد الدولة الليبية ، مما قضى على فرصة أي تواصل يحدث بين تلك الجهود وبين استئناف الحركة الادبية لنشاطها في عقد الخمسينيات بالاضافة الى ذلك كله ان صاحب تلك الاسهامات في تاسيس القصة الليبية القصيرة ، كان قد طوى تلك الصفحة من حياته طيا كاملا ، وانصرف عن كتابة القصة التي مارسها لمدة ثلاث او اربع سنوات أي مابين عامي 1936 الى عام 1940او قبلها بقليل ، عندما ترك ليبيا واقام في مدينة طنجة خلال عام 1939 ، ولم يعد لكتابة القصة بعد ذلك ابدا ، فلم يحدث استمرار ولا تراكم وتطور لتلك الجهود وظهر من يؤرخ للقصة ، وبعضهم مثل المرحوم نجم الدين الكيب صاحب جهود تاصيلية في البحث والتأريخ لبدايات هذه الانواع الادبية، اكتفى باعتبار نفوس حائرة وهي المجموعة القصصية الاولى التي طبعت في البلاد ، هي النقطة الاولى في تاريخ القصة الليبية القصيرة ، وطبعا مع الاشارة الى ان هذا الفن الادبي قد تاسس وصنع رصيده على يد رواده في العالم العربي ، ونحن لن نعيد اكتشاف الكهرباء ، ولكن مجرد اشارة الى ان كتابا ليبيين بداوا يلحقون بالركب الادبي في العالم العربي ويكتبون هم ايضا هذا اللون الذي سبقهم اليه كتاب في بلدان اخرى ، دون علم بان هناك رائدا ساهم مع الرواد الاوائل في تاسيس هذا الفن ، وكانت منابعه ومصادره توصله مباشرة بمنابع ومصادر الثقافة العالمية فلم يكن مقلدا او معتمدا على الترجمة وانما كان يقرأ الادب الذي يكتبه ايطاليون مثل بيرانديللو الحائز على جائزة نوبل في الثلاثينيات بلغته الاصلية وكان يترجم ويكتب نقدا ودراسات عن الادب الايطالي ويكتب تعليقات عن ادب القصة الايطالي فهو وثيق الصلة بالمشهد الادبي في تلك البلاد واستطاع ان يزرع شتلات الادب القصصي بشكله الفني في تربة الادب العربي اسوة بكتاب رواد في مصر ولبنان ، الا ان هذه الشتلات ظلت بسبب ظروف تاريخية عاشها الوطن ، وفترات قحط وامحال عاشها ابناء البلاد ، معزولة عن اهلها ممن كان يعنيهم الاستفادة بها او يبدأون مسيرة التجديد والنماء انطلاقا منها ، فكانت هذه الجهود جهودا اعقبها يباب وبيد دونها بيد ، وظلت جهود هذا الرائد الكبير ودروسه الذي بثها في ذلك الخلاء دون تلاميذ يستفيدون منها، وبذور زرعها دون ان يتمكن الناس من جني ثمارها بسبب التوقيت والظروف التي حاصرت تلك الجهود والرياح التي هبت على البلاد اثر زرع تلك البذور.
كنت ساشعر بحسرة كبيرة لو رحل هذا الرائد الادبي الكبير الذي قرات انتاجه وكتبت عنه ، دون ان التقي به ، اذ انني عندما كتبت عنه كان يعيش في الكويت ملتحقا بالعمل بمنظمة الاوابيك العربية ، وعندما عاد الى الوطن التزم بالاقامة في الجزء الشرقي من البلاد ربما بين بنغازي ودرنه ، ولم اره يحضر الى طرابلس ، ولم يشارك في اية منتديات فيها ، الى ان جاءت فرصة ذهابي الى بنغازي للمشاركة في احياء ذكرى الصادق النيهوم في احتفالية قامت بترتيبها وتنظيمها المكتبة الوطنية ، وبمجرد وصولي سالت الصديق الاستاذ عبد الرسول العريبي ان يساعدني بترتيب زيارة الى بيت الاستاذ وهبي البوري لانني علمت انه يمر بظروف صحية قد لا يتمكن بسببها من حضور الاحتفالية ، فوعدني خيرا ، الا انني في اليوم التالي لوجودي في بنغازي وكان يوم افتتاح الاحتفالية اذا بالصديق الاديب محمد الشويهدي يبادرني قائلا هل رايت الاستاذ وهبي البوري ؟ وعرفت منه انه كان موجودا وان ظروفه الصحية تحسنت بحيث صار بامكانه المجيء فافرحني الخبر وقادني الاستاذ الشويهدي اليه وتشرفت لاول مرةبلقائه ووجدت عنده نفس الحماس لرؤيتي ولقائي ، وهكذا تحقق هذا اللقاء الذي كنت اتطلع اليه منذ ان قرات اول قصة له في ليبيا المصورة . وكنت قد عرفت انه عاد يمارس هواياته القديمة في الكتابة والترجمة ، ويفتش في اوراقه التي كتبها ابان فترة الثلاثينيات وقد انطلق منها لتجميع ما نشره في شبابه الاول من قصص ، دون ان يحس بالحاجة الى مواصلة ما انقطع من هاجس الكتابة القصصية ، فقد ارتبطت كتابة القصة بالنسبة اليه بتلك المرحلة الخضراء من العمر عندما كان في سن العشرين من عمره ولم يكن ممكنا ان يعود اليها وهو يستانف رحلته مع الكتابة بعد ان صار على مشارف الثمانين فترجم عددا من الكتب وقام بتاليف غيرها تاريخا واقتصادا ، وقد كان واحدا من مؤسسى الدولة الليبية واباء الديبلوماسية والعمل في الشئون الخارجية، كما كان مشاركا في المراحل التأسيسية للجامعة العربية ، وللعمل السياسي والاعلامي في مجال القضية الفلسطينية وفوق ذلك كله كان انسانا نبيلا ، شريفا ، صادقا مع نفسه ومع الناس وكان مثالا جميلا يلخص المعدن الاصيل النبيل لمواطن من ليبيا ، عاش في سلام مع العالم، يعمل في دأب وصمت ، ويؤدي رسالته نحو الوطن والانسانية دون من ولا مطالبة بالشكر والاعتراف بالجميل ، ورحل عن دنيانا بعد ان قضى فيها اربعة وتسعين عاما منتجة خصيبة ، رحمه الله رحمة واسعة واجزل له العطاء بقدر ما قدم واعطى لاخوته في الانسانية وفي المواطنة .