قصة

المُولى جحا بدون حماره

من أعمال الفنان محمد الشريف.
من أعمال الفنان محمد الشريف.

[1]

جلس جحا حانقاً في قاعة المحكمة، عابس الوجه، قلقاً، سأم الإنتظار الطويل طويلاً، ترك خليله الحمار الوفي في البيت، يتململ في مكانه.. القاعة مزدحمة بما هو اجرامي وغرامي وما هو مجهول ما هو مستور، ينتظر بفارغ صبرٍ لساعات طويلة، ينظر إلى الناس بجواره، الزمن يلاحق نفسه.. أخيراً وصله نداء الحاجب عن اسمه، قفز جحا في مكانه لا ارادياً، نظر جحا إلى وجه القاضي الذي علته ابتسامة هادئة وانهمر على رأسه فيض من نور القاعة وقال للقاضي جالساً بمقعده : لك ما شئت،، أشار له القاضي أن يقترب، نهض عن المقعد ببطءٍ شديد، حثّ خطاه حتى يقترب من القاضي، اصطنع خطوات واهنة علّه يفوز بعطف القاضي وشفقته، قال القاضي : تعالى اِقترب أكثر، يا مولانا،.. تمتم جحا في أطار التذكير بالمكتوب بكلماتٍ غير مسموعة متجهاً نحو القاضي: هذا لا شكّ فيه ؛ فهو في لوح الأقدار مكتوب، والمكتوب – قيل – يأتي بلا مستشارين.

[2]

 ازداد جحا قرباً من منبر القاضي، انحنى القاضي وهو يخفي ابتسامته خاطفة، همس لجحا: نأسف يا مولانا لقد مضى الوقت سريعاً وحان الآن موعد إغلاق المحكمة وإنّ غداً ليومٍ آخر وكل توخيرة فيها خيرة.. تصنّع جحا أنّه لم يسمع كلمة واحدة من كلمات القاضي، لم ينطق، وقف صامتاً كصنمٍ، اعتدل القاضي في جلسته، أعاد القول مرة أخرى لجحا، أحسّ جحا بأنه اِنحشر في قبوٍ مظلمٍ، عندها اشتاط غضباً وارتفع صوته محتجاً : سيدي القاضي العادل هذا إفتراء على الناس وحماقة قانونية كُبرى واجراء سخيف تعسفي خارج على الأعراف والتقاليد الشعبية.. على الفور بادره القاضي بالقول : مهلاً، مهلاً، إخرس يا أحمق وأضاف في وجه المولى جحا غاضباً: منازعة المحكمة من ملكات الجهل بالقانون.

[3]

ساد بعض الصمت وثمة هدوء تام، تيقن المولا جحا أنّه في حالة كحالة حماره عندما يبحر نحو الحقول الجافة، قال في نفسه : ساعدني يا الهي خذ بيدي، كل ما يهمني الآن كيف أجد عن هذه الورطة حولا.

[4]

نظر القاضي بغيض إلى جحا وقال له بصوت صارم : حسناً، لقد تجرأت على عدم احترام المحكمة وقاضي المحكمة وعليه قرّرنا أن تدفع غرامة مالية مئة دينارٍ ثمناً لسلوكك المشين وتطاولك على هيبة المحكمة.

[5]

امتعض جحا من قرار القاضي وجذب محفظة نقوده من جيب جلبابه فعاجله القاضي ساخرا: مهلاً مهلاً يا مولانا جحا أنت لست مُلزماً أن تدفع الغرامة اليوم وفي التو، يمكنك أن تدفعها لاحقاً.. ابتسم جحا وهو يسترخي في وقوفه مهتزّ الرجلين والكتفين، ثُمّ تمتم شاكراً الله بخشوع وسكينة أنّ:  الحمد لله العالم بالسر وما يخفى  فالقاضي لا يستطيع أن يقرا ما برأسي ولا بما في شفرة  ”البسباسي“،

[6]

إعتدل جحا واقفاً، ابتسم واضاف غير مبالٍ: سيدي القاضي الجليل في الحقيقة  كنت أريد أن أتاكد من أنّ معي في محفظتي مايكفي من المال لكي أضيف إلى ما قلت سابقاً بعض الكلمات الأخرى الأكثر بذاءةً وعفونة وبحرفية شوارعية تعلمتها من الناس في الأحياء والشوارع و من “النت” ايضاً، وهو كلامٌ يا سيدي القاضي يهزّ المحكمة هزّاً وينقص من هيبتها ولا يليق بها وفيه ما لا يصلحه الدهر ولن ينفعه الترقيع  وقد يغضبك كثيراً وتأمر بقطع رأسي وتنشر ذلك في جميع بوابات التواصل الإجتماعي.. وهذا أمرٌ يا سيدي القاضي قد يثير أزمة في البلد والناس تحبّ الأزمات.. القاضي منصتاً متعجباً غير مصدقٍ لما يسمع، تنهد بعمقٍ و قال في نفسه: مولانا المولا يغلو في كلامه ويفرط بل فيه ما يتجاوز حده ويخبط !

[7]

صمت غريب يجول في القاعة.. ظلّ القاضي مستغرقاً في الصمت بعد الإنصات غير مصدقٍ؛ ثمّ فجأة ضحك القاضي ضحكة أب شفوق مبتسماً ابتسامة طفلٍ مرحٍ برئ وقد ساوم نفسه للتعمق في التأويل، فلزوم الغضب جهل لازم يُغتفر وقال: يا مولانا لا غرامة عليك البتة ولن تخرج مطاطئ الرأس مدحوراً، رُفعت الجلسة.. تنهد القاضي مغادراً القاعة هامساً لذاته: لا شكّ فجحا وصل إلى مشارف الجنون.

[8]

 ابتهج جحا وفي خطواته خارج القاعة قال بفرحٍ في سرّه: من أجل راحة البال سأُعلم حماري النجيب عندي وصولي للبيت و المثول في حضرته بأنّ التعامل مع المحاكم ليس دائماً مأمون العواقب وقد يصل القاضي أحياناً إلى مشارف الجنون.

مقالات ذات علاقة

هكذا أكلت المانجا

عزة المقهور

الغولة

محمد العنيزي

ألواح يوهسبيريدس

محمد العنيزي

اترك تعليق