نبيـــل عـــودة
لم يعرف “أبو رباح” طعما للنوم منذ أسبوع. القلق والشرود الفكري ظهر عليه واعتراه الغضب بدون سبب ظاهر. تراه ينفخ الهواء بقوة مكوّرا خديه، محاولا أن يطفئ نارا لا يراها أحد غيره. أحيانا كان يغرق في همه بحيث لا ينتبه لمن يلقي عليه السلام، يظل صامتا غارقا في ذاته، موجودٌ بجسده وغائبٌ بعقله. ظنّ البعض أن “أبو رباح” بدأ يفقد ذاكرته بسبب تقدمه بالسن والبعض نفى هذا الاحتمال مؤكدا انه جالسه، مستمعاً الى حديثه المتزن والعقلاني، لكن يبدو أن لديه مشكلة بيتية صعبة جدا لا يريد أن يفصح عنها لأحد. هذه المعلومة أثارت التأويلات في الحارة الصغيرة متلاصقة البيوت والغريب أنها قصص لا يربطها أي خيط واضح، بل هي أشبه بتفسيرات الأحلام، كل مفسر يقترح اتجاها لا يقبله الآخر.
عُرف عن “أبو رباح” رزانة العقل، هذه شهادة لا يختلف فيها اثنان. كثيرا ما جعلوه حكما لفض بعض الخلافات قبل أن تصل إلى المحاكم، فلا يربح منها إلا صندوق الدولة الذي يذهب ريعه لمشاريع لا تخدمنا، كما يقول. كانت أحكامه تحمل بُعد الرؤية؛ يميل فيها غالبا إلى إقناع المتنازعين، تمشيا مع قناعته أن الحل الأمثل خروج الطرفين راضيين مقتنعين بحكمه. مشكلته كما يروج وجودها البعض لم يتسرب منها أي خبر حتى إلى أقرب المقربين.
نساء الحارة، “الدواهي”، لاحظن أن ابنه البكر رباح غائب عن البيت منذ فترة تجاوزت الأسبوعين، فتوصلن بطريقة التفافية إلى تأكيد من زوجة رباح، بأنه سافر لزيارة أخيه الأصغر في بلاد الغرب لأمر طارئ بتكليف من والده.
هذه المعلومة الإستراتيجية أشعلت حرب التفسيرات والتأويلات من جديد: هل وقع خلاف بين الأب وابنه الغائب منذ مدة للدراسة في بلاد الأجانب؟ ترى ما هي الأسباب؟ هل المال هو السبب؟ هل تورط ابنه في الغربة بقضية استدعت سفر أخيه العاجل؟
أبو رباح ملاك كبير، لا تنقصه الأموال التي لا يبخل بها على المحتاجين، فهل يمنعها عن احد أولاده؟ أم هي مصيبة حلت بالأخ الصغير ؟ ارتكب حماقة مثلا؟
حتى الصلاة بدأ يتغيب عنها، أحيانا لا يخرج من باب بيته. نسوان الحارة اجتهدن لمعرفة السر الخفي. أم رباح كانت تستقبلهم بوجهها البشوش ولا تلمح بكلمة عما يشغل بال زوجها. لكن ضحكاتها مع نسوان الحارة كانت “مغصوبة”، كما قالت أم حسين، تكشف عن الهم أكثر مما تخفي.
ما زاد من احتمال هذا التأويل أن أم رباح قاطعت جلسات نساء الجيران ودواوين قهوة الصباح مما أدخل جلسات النسوان بدوامة الاجتهادات لفهم ما يدور تحت أنفهن ولكن بلا رائحة. السهرات خلت من أبو رباح ولم تعد لها تلك القيمة التي ميزتها، خاصة بما كان يحمله “أبو رباح” من المأكولات الخفيفة وتسالي الموالح وشراب الورد الذي تتقنه أم رباح، حتى الأضواء صارت تطفأ باكرا وكأن الحارة أصيبت بمرض غير معروف.. أو بمرض النوم!!
بعض أهل الحارة المقربين من “أبو رباح” أقلقهم ما يجري، تشاوروا مع شيخ الحارة الذي نصحهم بالتمهل وعدم إصدار الأحكام المتسرعة. قال لهم إنه يفهم قلقهم وإنه هو أيضا يعز الرجل ويقدره ويقدر مكانته في الحارة، فهو إنسان كريم ومؤمن يعمل لآخرته، لكن يجب احترام خصوصيات الناس، أضاف أنه واثق أن “أبو رباح” يعاني من مشكلة قد تكون، لا قدر الله، صحية وقد تكون تتعلق بأحد أفراد عائلته.
في فجر أحد الأيام قرع بيت شيخ الحارة أحد أحفاد “أبو رباح”، وسأله إذا كان يستطيع أن يمر على جده، فهو يحتاجه لاستشارته في موضوع هام.
سال الشيخ الحفيد : ما الموضوع؟ فرد أنه لا يعرف التفاصيل، لكنه يظن أن خلافا وقع بين جده وابنه سمير الذي يدرس في الخارج.
– متى زار سمير البلاد؟
– لم يزرها منذ سنتين.
– ما الحكاية؟ سأل الشيخ نفسه وهو يرتدي ملابسه الرسمية، شاعرا أن الموضوع بدأ يشغله ويقلقه، متمنيا ألا تكون وراء ما يشغل بال أبو رباح مسألة فيها إشكاليات يتعذر حلها وقد تنعكس سلبا على إكراميات الرجل ورحابة عطائه.
*****
– أهلا وسهلا .. آمل أني لم أزعجك بدعوتي?
– الناس لبعض وأنت عزيز على قلوبنا جميعنا.. لعله خير..؟
– والله أنا حائر.. أشعر أن الكرة الأرضية وقعت على رأسي؟
– ما الحكاية ؟
– ابننا سمير ..
– أبعد الله الشر عنه..
– ليتني سمعت خبر موته قبل أن….
وصمت غير قادر على نطق ما يعتمل في فكره
– حاشا الله .. لكل مشكلة حل
– إلا هذه يا سيدنا
– هل تزوج أجنبية؟
– ليت الأمر قد انتهى عند هذا الحد!!
– بدأت أشعر بالقلق.. أفصح لنفهم ما الحدث
– لقد بدل دينه!!
-العياذ بالله.. العياذ بالله .. العياذ بالله.. اللهم لا تدفعه الى الضلال. اللهم لا تجعله من المرتدين. اللهم لا تجعله يرمي نفسه في النار.
-انتهى الأمر .. وقال إنه لن يعود إلى مجتمعنا المغلق.. وإنه صار مسيحيا!!
– أستغفر الله، وكيف حدث ذلك؟
-لا أعرف … في آخر رسائله قال إنه يحب طالبة إيطالية، زميلة له في كلية الطب ويفكر في الزواج منها. قلنا له على بركة الله لكن عليك أن تنورها بعاداتنا الاجتماعية وصحيح ديننا وأهمية الحجاب. فجاء رده أن الشمس لا تغطى بعباءة وأنه سيتزوج في الكنيسة.
صمت الشيخ طويلا مفكرا في المصيبة الكبيرة التي نزلت على “أبو رباح” ، لكنه بعد تفكير قصير قرر أن يخفف مصيبة “أبو رباح” حتى لا يقتل الهم هذا الرجل صاحب “الأفضال” على الحارة، أو لا سمح الله يوقف تبرعاته السخية التي أضحت مثل الأوكسجين لصندوق المساعدات الذي يشرف عليه هو نفسه. حتى عندما ثار تساؤل عن نقص أموال الصندوق من بعض الخبثاء، أخرسهم “أبو رباح” بقوله إن ما ينقص الصندوق سيعوضه من ماله، عبس بوجوه المشككين وقال: يجب الاحتراس من اتهام شيخ ورع لا يفوت فرضا، يسارع للقيام بكل واجبات الأفراح والأتراح، متخذا مكانه على رأس الموائد إكراما لأصحاب الفرح أو تعزية للفاقدين عزيزا عليهم. .
قال الشيخ بعد تفكير:
-لا عليك يا عزيزي، أنت إنسان مؤمن وتقوم بكل ما فرضه الله على المؤمنين، إذا كان ابنك قد ارتد فهو يحمل إثم أعماله ونتيجة ردته. نحن في عالم غريب، إنها أفعال الصهيونية والاستعمار الذين لا يتركون لنا ساعة راحة، يضللون أبناءنا الذين يتوهمون أن بلاد العجم بلاد علم وهي بلاد كفر وزندقة ولا علم فيها إلا الضلال. كما ترى يغررون بالوافدين إلى دولهم بالفواحش والملذات المحرمة، ليتركوا دينهم ويضلوا طريقهم ويتبعوا كفرهم. تمهل ولا تقتل نفسك بالغم، لعله يعود إلى وعيه ودينه قبل أن يعذبه الله بنار جهنم. يجب مواصلة نصحه وفتح عينيه على ما ينتظر المرتدين من عذاب القبر وحساب يوم الدين. لكن يبدو يا “أبو رباح” أن هذه الظاهرة منتشرة في كل الديانات. البعض يهديه الله حسن الخيار فيدخل الإسلام والبعض يضلل بهم فيبقون على ضلال جاهلين عذاب القبر وعذاب النار يوم الحساب. أنت قمت بواجبك كاملا، قمت بواجبك نحوه ، لم تبخل عليه بالمال، أرسلته لتلقي العلم لدى الكفار، على أمل أن يكون واعيا لدينه، ممانعا لما يراد له من ضلال . انت حذرته ونبهته ولكنه عصى وأصر على ما اختاره لنفسه من معصية عقابها عند الله كبير. قمت بواجبك به على أفضل وجه، انت لم تبخل عليه لا بالمال ولا بالنصيحة، علينا الصلاة لأن يهديه الله العقل والوعي حتى لا يواصل السقوط في هاوية الكفر. آه من العلم والمتعلمين ، يظنون أنهم أوعى الناس وهم جهلاء لا يفقهون.
بعد أن تمهل قليلا، أغمض عينيه للحظات، باحثا عن مخرج يخفف به من آلام “أبو رباح”، ثم فتحهما وكأنه يقول وجدتها وقال:
– أريد أن احكي لك حكاية يقال إنها حقيقية والله أعلم ، يقال إنها جرت مع يهودي صار ابنه مسيحيا أيضا. أضاف:
ذهب ذلك يهودي شاكيا باكيا همه إلى الحاخام في بلدته. قال له: قررت أن انتحر من الخزي والعار، بسبب تحول ابني إلى المسيحية، تاركا دين موسى وسائر أنبياء إسرائيل..
قال له الحاخام: ألا تعلم يا عزيزي أن الانتحار هو خطيئة كبيرة عند الباري ليتقدس اسمه؟
قال اليهودي: كان ابني يبشر بالخير، يدرس في مدرسة دينية، كنت آمل أن يصير حاخاما محترما، له بيت كبير مليء بكل التحف والأبهة، مثل بيتك تماما ، يقصده الناس لطلب مشورته وبركاته ومساعدته وقت الشدة والضيق. الآن أشعر بالعار ولم يعد لحياتي معنى.. لقد تداعى عالمي ولم تعد قيمة لحياتي.
قال الحاخام: صحيح أن ما حل بابنك مؤلم جدا، لكنها ليست نهاية العالم. تمهل وصلي من أجل أن يعود عقله إليه، فيرجع إلى دين الشعب الذي خصه الله بحبه ورعايته من بين جميع شعوب المعمورة.
– المسالة ليست سهلة يا محترم إنه يرفض حتى الحديث معي. ضميري يعذبني، ماذا سأقول للخالق يوم الدين؟ أضعت ابني ولم اتمكن من جعله يحافظ على دين آبائه وأجداده؟!
– أعرف ما حل بك من ألم وحزن، فقد واجهت تجربة مماثلة في الماضي.
– كيف.. ؟ إنه أمر فظيع.
– أنا أيضا لي ابن صار مسيحيا ورفض القدوم إلى أرض الميعاد.
– وماذا فعلت؟ سأله اليهودي
– صليت لرب العالمين، توسلت اليه أن يعيد لابني عقله ووعيه فيعرف أنه ضل الطريق.
– وماذا قال لك الرب وأنت إنسان صاحب مكانة كبيرة في رعيته وطلباتك من الرب لا تسقط على آذان صماء؟
– جاءتني رؤية ،قال لي الرب فيها: غضبك لا مكان له، فانا رب إسرائيل لدي هم كبير أيضا، فابني الوحيد ترك دين شعبي المختار ورفض تلمودهم وصار مسيحيا ساحبا وراءه نصف شعبي المختار.
nabiloudeh@gmail.com