ظلّ إستقلال ليبيا الأوّل في عام 1951 م الذي نعيش هذه الآيام ذكراه الثانية والستين في القلب من إهتمامات المؤرخ الليبي مفتاح السيّد الشريف الذي يعيش منذ سنوات في ألمانيا حيث أعيش ، والذي كتب قصة الصراع من أجل هذا الأستقلال حلقة في مسيرة الحركة الوطنية الليبية مبتدءا التأريخ لها بكتاب عن الحركة السنوسية ، ألحقه بآخر وهو جديد في بابه عن تاريخ الأحزاب الأستقلالية الليبية ونضالاتها كان توطئة لسفره الثمين : (ليبيا .الصراع من اجل الأستقلال) وهو جهد غير المسبوق من أقرانه ومجايليه من الكتّاب الليبيين .
لم ألتق الآديب والمؤرخ الليبي : مفتاح السيّد الشريف في مدينة (بون ) العاصمة السابقة لدولة ألمانيا التي توحّدت قبل أن أدلف إليها كالآعمى في اوج إحتفالات الكرنفال نهايات شهر فبراير 1992 م. وقتها كان الشريف قد حزم حقائبه ترافقه زوجته الألمانية إلى أفريقيا متبؤا وظيفة مدير تنفيذي لتمثيل دول (ليبيا والسودان ، وموريتانيا ،والصومال ) في بنك التنمية الأفريقي في ساحل العاج .
تواقت مع أندراجي للتو في دراسة اللغة الألمانية يدفعني انا الغرير وهم تحضير درجة الدكتوراة في الفلسفة بدء تنفيذ الأمم المتحدة الحصار الجوي على ليبيا او بالأحرى جماهيرية القذافي المارقة كما كانت توصم وقتذاك في دوائر السياسة ووسائل الأعلام الغربية عقابا لها لإشتباه ضلوع ليبيين تابعين لجهاز الأمن الخارجي الليبي في حادثة تفجير طائرة ركّاب أميركية على قرية لوكربي في (أسكتلندة) عام 1986 بون التى أحتباها الشريف منفى أختياريا له ،كان قد عمل فيها مستشارا اقتصاديا في السفارة الليبية في الفترة الدبلوماسية الزاهرة : من العام 1964 م إلى 1968 م ، ثم سفيرا بها من العام 1974م حتى منتصف عام 1977م ليعود إلى ليبيا منفكّا بنفسه عن غوغائية ما سمّي بــ(الدبلوماسية الشعبية) التي دشّنت بداية العام 1980 م ،والتي أقترف القذافي ولجانه الثورية الإرهابية تحت مظلّتها جرائم تصفية قوى المعارضة الليبية في اوروبا ،ساعده في ذلك تواطؤ مخابراتي أوروبي ستكشف ربما الأيام القادمة طرفا من أسراره المريبة .
بعد حصول الشريف على تقاعد مبكّر متفرّغا لشئون الكتابة في التاريخ الليبي ،وقبل عودته من ساحل العاج إلى بون عام 1995 م أي قبل ذلك بسنة كنت قد يممّت صوب الشمال لغرض الدراسة إستكمالا لمتطلّبات تأهلي للحصول على الدكتوراة في الفلسفة بدراسة المجال العلمي الثاني في العلوم السياسية بجامعة ( ألدنبورغ) المسمّاة بأسم الكاتب رفيق الشاعر والمسرحي الألماني الشهير (بيرتولد برشت): (كارل أوزتسكي) ، الذي اغتالته العصابات النازية في برلين في عشرينيات القرن الماضي .
نجاحي أخيرا بعد عوائق بيروقراطية وحياتية نهاية عام 2003م في تسجيل أطروحتي للدكتوراة في جامعة أولدنبورغ بعنوان :(الأيديولوجي واليوتوبي في رسالة حّي أبن يقظان) للفيلسوف الأندلسي (أبن طفيل) ولتواصلي مع المشرف الثاني على أطروحتي المجهضة الذي أخترته من جامعة بون هما مااعاداني مجدّدا إليها ، مؤمّنا مصاريف عيشي بعد نفاذ مدخرّاتي من عملي في المصانع الألمانية وإنسداد سوق العمل في المانيا بمكافآة زهيدة أمّنها لي شخصيا ولدواع قرابية وقتذاك السفير الليبي في برلين على كادر المدرسة الليبية في بون والتابعة إداريا للسفارة نظير عملي مترجما في قنصليتها الليبية العامة .
في عام 2007م علمت في دردشة مع السائق المغربي الذي عمل في السفارة الليبية في بون منذ ستينيات القرن العشرين :أن مفتاح السيّد الشريف يعيش على بعد خطوات من مبنى القنصلية العامة في حّي السفارات السابق (باد غودسبرغ) .كنت قد سبق لي وقتها أن قرأت مقالات للشريف في الأدب اللبيي في الموقع المعارض الرائد (ليبيا وطننا) ، كما لمحت صورته مشاركا عبر الموقع الألكتروني ذاته في أربعينية تأبين احد المعارضيين الليبيين في ألمانيا ، ومحاضرا في مناسبة سبقتها في التاسع من أغسطس ذكرى تأسيس الجيش الليبي في الحقبة الأستقلالية الملكية .أشتممت من حضور الشريف لهاتين المناسبتين أن علاقة تربطه بالنشاط الليبي المعارض ، وهو ما أوحى به همس السائق المغربي وهو يبوح لي ثقة فّي بأسمه دون ان يسمع أحد من موظّفي القنصلية الليبية هذا السرّ الثمين .
ولكن كيف يمكنني الأتصال بالشريف ؟ في مناخ الأرتياب الذي مازال سائدا منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي وحتى إنتصار ثورة السابع عشر من فبراير المجيدة في الـ 2011 في حياة ليبيي المهاجر خاصّة في بون التي مازالت بصمات أعوان المخابرات الليبية قتلة المناضل الليبي (جبريل الدينالي) ومنذ مفتتح الثمانينيات من القرن الماضي محفورة في ضمير ساكنيها من الألمان من روّاد مقاهي عطلة السبت في ساحة الــ (فريدن ــ بلاتسه) ، بل كيف يمكن ان ألتقيه ؟حيث يقّضي شيخوخته الخصبة الهادئة في بون ـــ بادغودسبرغ حيّ السفارات السابق حيث يقع المبنى المشئوم للمكتب الشعبي الليبي الأرهابي ، شاهدا من شواهد الحرب الباردة والتي مازلت عالقة في أذهان الألمان من ساكنة الـ( بيتهوفن آليه) أحد أشهر جّاداته ، الذي وقعت فيه محاولة خطف طلاّب ليبيين معارضين من قبل عناصر التصفية الجسدية التابعين للجان الثورية . وهل يتميّزني ؟في مدينة مازالت حتى ذلك الحين محتشدة بالمعارضين المخضرمين للنظام الليبي وفي الوقت ذاته بالعناصر المخابراتية الجماهيرية . وهل يأمن لي ؟ إذا ماقدّمت له نفسي طالبا بل كاتبا مغمورا وهو السياسي الذي أصبح معارضا علنيا لدكتاتورية القذافي منخرطا فيما صار بعد ذلك المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية .
الكاتب الصحفي النابه أحمد الفيتوري في تقديمه الذي نشر في ملحق العدد 33 من صحيفة ميادين التي يرأس تحريرها لبعض من سيرة الآديب المؤرخ مفتاح السيّد الشريف وصفه محّقا : بالمثقف العضوي . وهو التعريف الذي أستنّه المفكّر الماركسي الأيطالي (انطونيو غرامشي) والذي بتبسيطه ينطبق على مؤرخنا ( الجمعوي) الذي أنخرط في بواكير صباه في الحراك الأستقلالي لـ(جمعية عمر المختار) معتبرا نفسه من راديكالييها الشبان والذي لم تعقه إنتلجنسيته واقرانه من الأنخراط في مهمّات بناء الدولة الليبية الوليدة في إطار ماعرف وقتذاك بـ (الوطنية الليبية المحافظة ) . مع بقاءهم مناهضين إرث التاريخ الثقيل لحقبة مابعد الأستعمار توجّها فيدراليا لشكل الدولة ألجأ إليه المكوّن الجغرافي ـ التاريخي الراهن وقتذاك للأقليم الليبي ، وإتفاقيات تعاون عسكري أملتها رهانات الولادة العسيرة للكيان الأستقلالي مع الدول المنتدبة عليه والأخرى الداعمة له ، والتي ستوصف مستقبلا بالقوى الأمبريالية في أدبيات اليسار العالمثالتي الذي ينتمي الشريف وأقرانه فكريا إليه .
يجمعني حتى الآن بالشريف قدر الأدب أي المهمة المعرفية الشاملة التي تمّ إقصارها على مفهوم النقد الأدبي .فأسمه مازال يلوح بخفوت في ذاكرتي الباهتة ناقدا هاويا للأدب في زخم الصحافة الليبية الستينية من خلال مقدمتيه التعريفيتين الأنطباعيتين بديواني الشاعرين الليبيين الستينيين (خالد زغبية ،وحسن صالح) اللذين جمعته بهما التطلّعات الوطنية المشحونة برومنطيقيات اليسار في النصف الثاني من الخمسينيات وكل الستينيات . كذلك التوطئة التي أقترحها مقدمة لديوان الشاعر (علي الرقيعي) :(الحنين الظامي)، والتي أستعيض عنها بمقدّمة القاص والمحامي كامل المقهور العائد لتوّه من القاهرة التي انهى بها دراسة للقانون .والتي سينشرها الشريف لاحقا مقالا في مجلة الضياء . عدا ذلك فـلــ ( الشريف ) العديد من المتابعات الصحفية التي كان يكتبها تحت توقيع ( إبن حزم) في الصحف الليبية الستينية وهي كتابات هيمنت عليها توّجهات اليسار التي عكست تطلّعات المثقفين من الجيل الشّاب في حقبة الأستقلال وهي فعالية يمكن إدراجها نشاطا وتنويرا ينبغي الألتفات إليه بالدرس والبحث معبّرا عن حقبة مهمة في تاريخنا الثقافي الوطني .
كما يجمعني بالشريف أيضا قدر (المنفى الأختياري) ، الذي وصفه (تزيفتان تودوروف ) في كتابه (نحن والآخرون ) بــ(الديكارتي) أي ان تنفكّ مثل الفيلسوف الفرنسي (ديكارت ) بروحك المعرفي عن وطن تنشغل به ويزدريك ، إلى مغترب ألماني لاتعنيه إنشغالاتك ، ولايأبه لمحنتك ، ولكّنه يوفّر لك بالكاد بحياده وبروده المناخ الذي يهبك فضيلة التأمل في ذاتك ، وبناء كونك المعرفي المستقّل