طيلة مطالعتي لنصوص الحداثة على اختلاف مجالاتها الإبداعية، لم أكن غافلا عن قيمة الشعر الشعبي كنوع من أنواع الأدب الحديث، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالشاعرين (عمران القزون) و(الرويعي الفاخري).. فأغلب قصائدهما ترقى لمستوى الأدب الرفيع.. كونها تحمل أفكارا متطورة وعميقة جدا حيال الكون والوجود الإنساني..
جاءت هذه القيمة لهذين الشاعرين تحديدا، أولا لتمكنهما من الوصول إلى الوعي الشعري المعقد، الذي يكمن في معرفة التجربة وقسوتها؛ ومن ثم مواجهتها.. وثانيا/ لسعيهما الدائب لتخليص الشعر من بروز الاستخدام الغرائزي للعاطفة، واستبداله بسؤال المعرفة الموغل في متاهة القلق.. محيلان القصيدة إلى خطيئة ضد قداسة الواقع.
لقد حاول هذان الشاعران وفق المنظور الريكوري، نسبة إلى (بول ريكور) أن يواجها الأنا، كنوع من الفصل بين هويتين، الهوية بمعنى الذاتية، والهوية بمعنى التماهي أوالمطابقة، وهذا ما وضعهما أمام حقيقة أن الذات نفسها قد فقدت شطرا من صفاتها.. وأنها تخلت عن هويتها (الهوياتية).. في محاولة لجعل القصيدة حلا ممكنا لاسترداد ما ضاع منها.. وفي صميم بحث الذات عن ذاتها المتماهية؛ فإنها تبحث عما يكملها- وهو العالم- فلا وجود لذات خارج العالم..
شاعران ينضفران في تجربتين تمثلان (نقطة عليا).. يمثلها التمزق الداخلي بين روح التصوف العميق عند القزون، وبين إرادة التمرد العاتية عند الرويعي..
لقد كان كلاهما (سد هارتا).. فالقزون منحني قطعة من ليله العميق لأتأمل الجمال الثمل لظلال الوجود الخفية، وأن أقبض على الالتماعات النادرة، لأن بقية الحياة كآبة واجترار.. وأما الرويعي فقد تعلمت منه أن ابتلاع الأسى، كما يقول (نيتشة) ينتج مزاجا سيئا، وأن تحرير النفس من الاستياء هو أول خطوة نحو الشفاء.
____________