رواية العلكة للكاتب منصور أبوشناف.
ترجمات

قرن من الاضطهاد الاجتماعي والثقافي في الرمزية الليبية لمنصور ابوشناف

أليفيارا ديانا *

ترجمة: أحمد الغماري

رواية العلكة للكاتب منصور أبوشناف.
رواية العلكة للكاتب منصور أبوشناف.

 

شهدت فترة حكم الدكتاتور القمعي (معمر القذافي) إرتفعاً ملحوظاً في عدد الأعمال الأدبية الممنوعة من التداول بين الناس، ومن بين تلك الأعمال تجدر الإشارة إلى رواية (سراب الليل.. العلكة) للكاتب المسرحي والروائي وكاتب المقال الصحفي منصور ابوشناف، التي صدرت سنة 2008، وتم سحبها بعد ذلك من الأسواق مباشرة، إلا أنها وبعد الإطاحة بنظام القذافي، ترجمت إلى اللغة الإنجليزية وصدرت سنة 2014 بعنوان Chewing Gum. وها هوذا مقال تحليلي حول هذه الرواية التي انكفأت على صفحات عميقة ومكتظة بالصور والاستعارات والرموز الموغلة في الإحالات التاريخية والثقافية والفنية والفلسفية. هي لوحة من فسيفساء معقدة، كل قطعة فيها تسهم في تشكيل صورة لبلدٍ ظل لعُقودٍ طويلة ضحية الرقابة الاجتماعية والثقافية، ليدخل مِنْ ثُمَّ في هوسِ مضغ العلكة التي شكلت في زمن ما رابطاً، وحد الليبيين، واستطاعت أن تفلت من صرامة رقابة مفروضة، في بلدٍ عرف خلال القرن الأخير نُظم سياسية مختلفة، كان القاسم المشترك بينها هو الاضطهاد الاجتماعي.

منذ سقوط نظام حكم (معمر القذافي 1942-2011) عرف الأدب الليبي صدور أعمال كان من غير الممكن أن نتصور في يوم من الأيام، توزيعها أو حتى قراءتها في داخل ليبيا قبل ذلك الحدث بسنوات قليلة، بسبب أجواء الرقابة والقمع اللذين طبعا تلك البلاد لأكثر من أربعين عاماً مضت. ونذكر من بين تلك الأعمال على سبيل المثال الإصدارين اللذين نُشرا في طرابلس سنة 2012 المتمثلين في: المجموعة القصصية (سجنيات) للقاص عمر ابوالقاسم الككلي الذي ولد في سنة 1953. وهي أولى الشهادات التي صدرت حول حياة السجن أثناء فترة حكم القذافي(1)، بالإضافة إلى رواية (ظل الشيطان) لعلي عبد المطلب الهوني الذي ولد في سنة 1948، واعتُبرت يومئذٍ من بين الأعمال الأدبية الأولى التي صدرت حول الانتفاضة الليبية سنة 2011. وهنا نشير أن ثمّة روايتين سبقتا هذه الرواية للكاتب ذاته صدرتا في القاهرة بين عامي 2009- 2010(2)، وكان نظام القذافي قد لاحقهما بالحضر والممانعة حتى وصل به الأمر، أن أمرّ بمنع بيعها في معرض القاهرة الدولي للكتاب سنة 2010.

يشار في قائمة طويلة من الأعمال الأدبية الليبية التي صدرت في الخارج قبل سنة 2011، ومُنعت من التداول في الداخل، إلى رواية (سرب الليل .. العلكة) لمنصور ابوشناف (1954)، الصادرة عن دار ليبيا سنة 2008، وهي دار للنشر مستقلة، أسسها الكاتب والناقد الليبي إدريس المسماري (1956 – 2017) بالقاهرة. وقد اختفت الرواية بسرعة بعد صدورها من المكتبات، لكنها عادت للظهور مرة أخرى في طبعة إنجليزية سنة 2014، صدرت عن دار “دارف للنشر- Darf Publishers” في لندن بعنوان (Chewing Gum)(3). لتكون هذه المساهمة معتمدة عن تلك النسخة الإنجليزية.

ينتمي منصور ابوشناف وهو كاتب مسرحي وكاتب مقالة صحفية، إلى شريحة واسعة من الشعراء والكتاب الصحافيين الليبيين الذين عرفوا بين عقدي السبعينيات والثمانينيات تجربة الاعتقال، لإتهامهم بممارسة أنشطة مناهضة للنظام(4) آنذاك. وكان ابوشناف قد قضى إثنى عشر عاماً داخل السجن بعد كتابته بعض النصوص المسرحية منها (عندما تحكم جرذان) وأيضاً (تداخل الحكايات عند غياب الراوي). يسرد النص الأول الذي كتبه صاحبه سنة 1973، قصة مملكة كبيرة يحكمها فار كبير، يسيطر عليه هاجس الخوف من مولد طفلٍ، قد يحمله القدر لأن يكون هو قاتله. وليضع حداً لمخاوفه، وبذا لنظامه الاستبدادي فأطلق حملة لقتل الأطفال جميعاً، مما يذكر بنصٍ ثقافي ورد من بين القصص الإنجيلي يحكي قصة مذبحة الأبرياء(5) التي قام بها هيرودس. وتتكرر القضية في النص الثاني الذي ألفه الكاتب خلال تلك الأعوام، والذي يتمحور حول شخصية دكتاتور يخاف المستقبل، ويخشى فقدان سلطته. ولذا فإنه يفكر في تجميد الزمن وسجنِ وقتلِ شباب شعبه الواقعين تحت قبضته. وفي لقاء مسجل أجرته معه قناة بي بي سي، إبريل 2014 إشتكى ابوشناف صراحة من عوز المطالعة لدى الليبيين، واصفاً المجتمع الليبي اليوم، أنه مجتمع لا يتعاطى القراءة، قائلاً إن هذه الظاهرة تعود لعوامل عدة، منها في المقام الأول، صعوبة انتشار ثقافة القراءة بين الناس، ومردها، استراتيجية اتبعتها دُور نشر محلية كانت تحتفظ في مخازنها بالكتب الجديدة لسنوات عدة بدلاً من بيعها بعد صدورها مباشرة، تمشياً مع إرادة نظام القذافي الذي كان يسعى “لوأدِ الكتب الثقافية”. ويعتقد ابوشناف أن السبب الثاني وجب البحث عنه في الأحداث التاريخية التي وسمت ليبيا، ومنها الاحتلال الإيطالي، الذي فرض على عملية النشر آنذاك أن تكون باللغة الإيطالية، الأمر الذي جعل الليبيين يعزفون عن القراءة والمطالعة(6). ويستمر الكاتب مبيناً جوانب أخرى من المسألة وهي أن الليبيين كانوا يخشون أثناء فترة حكم القذافي الإقبال على شراء الكتب وقرائتها، نظراً لأن النظام يومئذٍ كان ينظر إلى الكّتبِ على أنها تعبير عن انتماء سياسي، فإذا كان المرء يقرأ كتاباً أوروبياً، فإن ذلك يعني أنه ذو انتماء رأسمالي؛ وإما إذا كان يقرأ كتاباً ماركسياً أو أصولياً، فحينئذ ينظر إليه على أنه ينتمي إلى تلك الأيدولوجية. وعليه يقول ابوشناف في ختام حديثه، يجب اليوم أن نعيد تربية النشء على القراءة وعلى عدم الخوف من قراءة الكتب. وهو واجبٍ تضطلع به المؤسسة التعليمية، التي يجب أن تزود مكتباتها بالعناوين المميزة، مع دعمٍ وزاري.

الكاتب: منصور أبوشناف
الكاتب منصور أبوشناف

كانت ( العلكة – Chewing Gum) روايته الأولى التي وصفتها الكاتبة الإنجليزية نورا إسماعيل(7) معلقة: “إنها تقديم خيالي رائع للثقافة الليبية وشهادة أدبية عن أمة تحكمها الرقابة”(8). حقاً، فبالرغم من قصرها وعدد صفحاتها التي لا تتجاوز 125 صفحة، إلا أنها تمنحك عند قراءتها فرصة إكتشاف صفحات دسمة من التعابير والرمزية، فهي مغمورة في الأحداث التاريخية، والثقافية، والفنية والفلسفية؛ بل إنها فسيفساء معقدة من السرد، ترسم في مجملها صورة لبلدٍ قُمع من قبل رقابة اجتماعية وثقافية، حتى تحولت في مرحلة ما، إلى تقليعة تمثلت في مضغ العلكة وانتشرت خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، وأضحت هوساً حقيقياُ، وهاجساً لم يتحاشاه أحد من أفراد المجتمع، سواء كان شاباً أو شيخاً، طالباً أو أستاذاً، فيلسوفاً أو أثرياً، أو كانت ربة بيتٍ أو مومساً، فقد باتت العلكة تمثل الخيط الرابط الذي وحد الناس جميعاً، لا لشيء إلا لأنها الشيء الوحيد الذي فلت من الرقابة الصارمة، في بلدٍ عرف خلال القرن الماضي نظماً سياسية مختلفة، كان العامل المشترك بينها، ممارسة القمع والاضطهاد الاجتماعي. ولمعرفة ما ورد من اقتباسات في الرواية بشكلٍ أفضل، وجب العودة – ولو بشكل مقتضب – إلى بعض الأحداث التي شكلت محطات تاريخية في ليبيا التي احتلت منذ القرن السادس عشر من قبل الأتراك، واستمرت سلطاتهم القمعية تسيطر لأربعِة قرون متتالية حتى جاء الاستعمار الإيطالي سنة 1911 واستمر حوالى ثلاثين عاماً أخرى، وهي الحقبة التي ينظر إليها اليوم على أنها الأكثر ظلاماً في تاريخ ليبيا الحديثة، لاسيما وأن السلطات المحتلة آنذاك لم تتوقف عند الاحتلال العسكري للأراضي، بل إنها سعت إلى “طلينت” الليبيين، في محاولة لمحو أيّ أثرٍ يمثل الهوية الأصلية للبلاد. هذا ما عبر عنه ابوشناف في اللقاء الصحفي الذي أشرنا إليه للتو. وفي سنة 1943 تولى البريطانيون والفرنسيون إدارة البلاد بدلاً من الحكم الإيطالي، وأستمر ذلك الوضع حتى إعلان استقلال ليبيا في سنة 1951 حينما أصبحت مملكة تحت حُكّمِ محمد إدريس السنوسي (1889 – 1983). ومع حدوث الانقلاب العسكري الذي قام به مجموعة  من الضباط، بقيادة معمر القذافي في الأول من سبتمبر سنة 1969، بدأت ليبيا مسيرة جديدة بمولد الجمهورية العربية الليبية وتدشين سياسة تأميم الاقتصاد وتعريب المجتمع الليبي تيمناً بالتيار الناصري.

ولنعد الآن إلى رواية (العلكة) التي تدور أحداثها وسط مدينة طرابلس، وفي أماكن واقعية منها: قصر أو كما تسمى قلعة السرايا الحمراء، التي تحوي متحف الجماهيرية الأثري، بالإضافة إلى المتنزه الكائن بالقرب من أقواس مبنى وزارة الداخلية. لقد لجأ الكاتب في تقسيمه للرواية إلى فصول مختصرة جداً، فجاء كل فصل مخصص لتناول شخصية أو عنصرٍ يحمل دلالة بعينها. ويتتبع من خلالها الكاتب سردا تاريخاً، منطلقاً من بداية العهد العثماني وصولاً إلى مجيء نظام القذافي، مستدعياً ومضات من الماضي باستمرار، مما قد يُربك القارئ الذي ليس لديه دراية بالمحطات التاريخية التي مرت بها المنطقة، إلا أن الأمر في مُجمل يترك انطباعاً عند القارئ أن لكل فصلٍ من فصولها استقلالية وخصوصية في إطار الهيكلية السردية. لكننا سرعان ما نكتشف في نهاية القراءة، أن كل جزءٍ منها يتناغم مع باقي الأجزاء. بالرغم من غياب الحوار شبه التام تقريباً بين شخصيات الرواية، ما جعل الأسلوب السردي يبدو وصفياً، لكنه ليس جافاً، كما هي تقنية بعض الكتاب الليبيين الذين تبنوا في السنوات الأخيرة شكل من أشكال الكتابة الجافة، الأقرب إلى الكتابة الصحافية، والتي على ما يبدو أنها الأسلوب الذي يتكيف مع الواقع القائم منذ عقود من الزمان، في بلدٍ يخنق أيّ روح إبداعية. وهنا نشير إلى القاص عمر ابوقاسم الككلي مرة أخرى على سبيل المثال، الذي حافظ في مجموعته القصصية (سجنيات): ” على أسلوب جافٍ ومتجردٍ، يذكر بأسلوب مراسل صحفي. متبعاً قواعد نحوية بسيطة جداً، معتمداً على جملٍ قصيرة، متحاشياً قدر الإمكان الزخارف البلاغية”(9). إلا أن أسلوب ابوشناف نجده يفيض مشاعر وعواطف إنسانية، وهو أمر ضروري للتخفيف من وطأة بعض المشاهد، كما فعل في وصفه لحادثة الجندي الذي مارس العادة السرية أمام التمثال.

وتستهل الرواية التي تدور حبكتها حول قصة عاشقين هما، مختار وفاطمة، بمشهد يصور مختار واقفاً تحت مطر يهطل بغزارة، و”تحديداً في المكان الذي تركته عنده فاطمة ” منذ حوالى عشر سنوات خلت. ظل مختار طيلة تلك السنوات يترد على المكان ذاته، بينما هي قد إبتعدت عنه وعن أسرتها ودراستها الجامعية لعلم الاجتماع، باحثة عن وضعٍ اجتماعي أفضل، مما قادها إلى طريق امتهان الدعارة. ومنذ الصفحات الأولى قدم الكاتب لنا أحد العناصر الرمزية في الرواية، ألا وهو متنزه المدينة. الذي وصفه أنه أرضٍ مغطاة بالنفايات والفضلات، من كل نوع، وبيئة تزدحم فيها “الكراتين الفارغة وأعقاب السجائر، علاوة على المتسكعين والمدمنين و السكرانين والزبائن وكذلك دوريات الشرطة”. باختصار، كان المكان واقعاً تحت سطوة أنشطة مختلفة، بعضها شرعي والكثير منها غير ذلك، تُذكر بالسياسات الفوضوية التي عمت البلاد خلال أربعين سنة من دكتاتورية القذافي، التي التهَمَت الفرد كما فعلت مع المجتمع بأكمله، حتى بات فاقد الإحساس بهويته الوطنية. ويتتبع المؤلف في سياق سرده الوضع الذي كان عليه المتنزه، أي عندما كان يبدو بشكلٍ مختلف “عبارة عن أرضٍ زراعية، تولاها مزارعون فقراء، جيلٍ بعد جيل، لكنهم اضطروا لبيعها إلى أحد المسؤولين الأتراك. الذي بدوره قام بتحويلها إلى متنزه ترفيهي لإقامة حفلاته الصيفية، متنزه يعجُ بالمغنين والموسيقيين والراقصين والمؤدي الألعاب البهلونية”. ويذكر ابوشناف أن أبخرة مسكرة تنبعثُ من نبيذ ذو مذاق ثقيل كانت تنتشر في أرجاء المتنزه خلال الحقبة العثمانية، بينما “تحلق الطيور في الهواء مبتعدة بسبب تعالي صهيل الخيل والصراخ المتواصل من الجواري، اللأتي تُرى أجسادهن بعدما يتعرضن للاغتصاب من قبل العسكر الأتراك متدلية من أغصان الأشجار”. لقد تحول ذلك المتنزه الترفيهي الذي خصصه الباشا لنفسه، بقدوم الإيطاليين إلى “مسرحٍ المعارك الشرسة بينهم وبين الليبيين”. حتى أشبعت تربته بالدماء، لكنه رغم ذلك، نمت فوقها بعدئذٍ، زهور الخشخاش الأحمر والبابونج الأبيض”. وعاد ليترك أثناء حقبة الإدارة البريطانية وخلال الأعوام الأولى من الاستقلال مرة أخرى، ليتحول إلى مقراً للمتسكعين ونشطاء السياسيين وملتقٍ للمومسات الليبيات. وهنا تأتي المقارنة بشكل عفوي بين قصة المتنزه وقصة الأرض التي يوجد فوقها، وهي أرضٍ تعرضت للذل وللاستغلال، كما ذكرنا آنفاً من قبل حكومات متعاقبة طوال قرنٍ من الزمان.

ويفهم من خلال تتبع السرد، أن شخصية مختار أصبحت جزءاً من المتنزه بعد مكوثه واقفاً في المكان ذاته، “كان لا يمكن تمييزه من بين الأشجار التي يستظل تحتها على مرّ السنين”، بينما البلاد “وقعت ضحية الهوس بمضغ العلكة”. وللحصول على هذه “السلعة الغالية”، نقرأ، أن المواطنين كانوا يستغلون كي يحصلوا على جوزات سفر، ثم يقفون في طوابير طويلة في المطارات لجلب العلكة من الخارج. أما الأمهات فكن يضعنها على رأس قائمة شروط جهاز زواج بناتهن. كما فقع المهربون في كل مكان مثل نبات الفطر، نظراً لازدياد الطلب عليها، حتى إن أسعار السوق السوداء تأثرت بأسعارها وأضحت العلكة الشغل الشاغل لوسائل الإعلام، والأكاديميين، ورجال الأعمال، والسياسيين. وبذا نشب الخلاف بين ممثلي اليسار واليمين:

كان اليساريون يرون أن الأسنان كناية عن الجنس البشري، وأن العلكة تمثل الزمن. ويرى ممثلو اليمين، الذين وصفوا بالمتشائمين والعدميين من قبل ممثلي اليسار، خلاف ذلك، أي إنهم يؤكدون على الرأي القائل أن العلكة رمزية للوجود الإنساني، بينما الأسنان كناية عن الديمومة وأن فعل المضغ عبارة عن حركة تستمر إلى مالا نهاية.

إذاً تبدو عملية مضغ العلكة، الفعل الوحيد الذي يمكن القيام به دون أن يتعرض صاحبه إلى الرقابة والعقاب؛ بل على العكس من ذلك، بالنسبة لأناس كُثّرين، ومن بينهم فاطمة، التي ترى أن مضغ العلكة كان مصدر متعة جسدية، وبفضلها، للمرة الأولى، شعرت أنها تعيش أجواء الحرية. وها هن المومسات على سبيل المثال، صورن جالسات في أماكن عامة يعرض “أنفسهن ويمضغن العلكة بشكلٍ مقيت وسريع حتى تثير إحداهن انتباه أحد المارة من الزبائن الراغبين.عندئذ، تهدئ من وتيرة مضغها للعلكة “. ومن جهة أخرى، تعكس ممارسة المضغ صورة لجانب من التمرد السياسي، وهي الممارسة الوحيد التي لا يلحق صاحبها أية ردةٍ فعلٍ أو انتقام من قبل النظام.

وانطلاقاً من هذه الصفحات تبرز أمامنا انتقادات لاذعة لا تخطئها العين، وجهها الكاتب إلى سياسات القذافي ونظامه، الذي أصبح قائداً لبلدً وصف أنه، ربما يكون البلد الأول في العالم الذي ينشغل بمضغ العلكة طوال فترة مديدة من الزمان، في وقتٍ تلوح في الأفق مشاكل دولية، تطرح مواضيع مثل: الحداثة، وسباق التسلح، والقضية الفلسطينية، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية، وإصلاح منظومة الأمم المتحدة، والأوبك وسعر النفط، ومؤمرات الأمريكية البريطانية على ليبيا. إلا أنه برغم ذلك، استطاعت ليبيا أن تضع قدميها على طريق عالم ما بعد الحداثة، في وقت مبكر عن باقي الدول العربية “الشقيقة”، التي تبدو أنها عازمة على صبّ جهودها نحو مواضيع أكثر أهمية.

وبالتأكيد أن الهوس المفرط بالعلكة يذكر القارئ بأجواء الرقابة الصارمة التي فرضها النظام خلال تلك السنوات، والتي تقضي أن تمر قطاعات المجتمع جميعها عبر غربلة دكتاتورية صارمة، وهو ما مّس جلّ الفئات الاجتماعية، ومنها في المقام الأول بطل الرواية مختار، الذي يظهر واضحاً أنه يمثل رمزية لشعبٍ أجبر على الذل والجمود؛ بل إن الأكاديميين أنفسهم الذين انشغلوا بدراسة تصرفاته وأنماط سلوكياته، وضعوا هم أيضاً تحت مراقبة الشرطة، التابعة لقوات الأمن الخاصة، التي هي أيضاً في المقابل واقعة تحت رقابة الثوريين. عملاً بمبدأ “رقابة المراقبين”، القاضي أن يكون الكل يراقب الكل من خلال أجهزة الاستخبارات التي لا تظهر للعيان لكنها على الدوام توجد في كل مكان، وتعد العلامة الفارقة التي تميز الأنظمة الدكتاتورية، التي منها نظام القذافي بطبيعة الحال. وهنا يجذر التذكير بالمؤتمرات واللجان الشعبية، التي جاءت كتعبيرٍ عن الديمقراطية الشعبية المباشرة في جماهيرية القذافي التي أسسها في 2 مارس 1977، بدلاَ من الجمهورية العربية الليبية، التي تحولت مع مرور الزمن إلى مليشيات تتحكم في طول البلاد وعرضها، وعلاوة على ذلك، من المهم أن نلاحظ أن الأكاديميين الذين تناولتهم حبكة الرواية أدمج جلهم قبل سفرهم إلى الخارج لإتمام الدراسات العليا في برنامج للتوجيه الفكري، فرضته السياسات القائمة آنذاك، ليستدعوا فيما بعد إلى أرض الوطن، كي يعطوا ثمرة خبراتهم التي انضجوها في الجامعات الأجنبية. هذا ما حدث مع أستاذ الفلسفة العائد من فرنسا بعد أن نال شهادة الدكتوراه في فلسفة سارتر، وكذلك مع مديرٍ للمسرح عاد من إقامة في المجر ومثله أستاذ الاقتصاد الذي “رجع من الولايات المتحدة الأمريكية حيث درس نظريات كينز(10)، ولكن رغم ذلك لم يعجبه أطروحته، وفضل بدلاً منه ما كان يطرحه “ماو تسي تونغ” وحريص على أن يخفي هذا التوجه خوفاً من عناصر الأجهزة الأمنية في كلا البلدين”.

ومن المهم أن نلاحظ أن شريحتي الأساتذة والمثقفين، اللتين من المفترض أن يكونا من مناصري حقوق الإنسان والحرية في المجتمعات المتحضرة، نجدهما في الرواية متورطتان مع نظام القذافي القمعي وإحدى ضحاياه في الوقت ذاته. كان “مختار” بالنسبة لهم نموذجاً للدراسة من الناحية الاجتماعية، إلى جانب فضلات المتنزه التي كانت تحيط به من كل جانب. وكما أشار الكاتب في الصفحات السابقة أنها أصبحت “مكاناً لتجمُّع القمامة” منذ أن وصل الثوريون للحكم بما في ذلك كرتين أغلفة علبة العلكة، التي بدت ذات أهمية كبرى لاستخدامها كوسيلة للتأريخ ولرصد الاتجاه الاستهلاكي في البلاد آنذاك. وفي هذا الشأن كتب المؤلف ساخراً:

“من خلال حملة دؤوبة غايتها مقارعة قيم الاستهلاك والرأسمالية كانت الصحف آنذاك تنشر باستمرار صور عدة لبطلنا محاطاً بالعلب الفارغة والقمامة من كل جانب. وبالرغم من أن أستاذ الاقتصاد الذي كان يدرك جيداً أن طلابه لا يحسنون التحدث باللغة الإنجليزية، إلا أنه تعمد استخدامها أمامهم بشكل مفرط. وكان يعطي لهذا الموضوع الصحفي المتعلق بالفضلات صبغة أكاديمية، مفضلاً التأكيد على ذلك، من خلال الاستعانة برسوم بيانية وخرائط توضحية التي تبين نمو النزعة الاستهلاكية في ليبيا، تبعاً لأنواع المواد الاستهلاكية وبلدان المنشأ. مستخدماً إياها كوسيلة للتأريخ، لتصبح بقايا العلب الراصد للتوجه الاستهلاكي في البلاد. فثمة مواد إيطالية، وأخرى فرنسية، وألمانية وأمريكية، وسويسرية، ودنماركية، فضلاً عن أخرى تونسية وأيضاً مصرية وتركية وصينية وتايوانية وبلغارية ويوغسلافية. […] ويختتم أستاذ الاقتصاد مؤكداً أن الاستهلاك الليبي كان في أساسه محكوماً بالتوجهات السياسية، إلا أنه لم ينشر أبداً تلك النتائج في دراسته الرائدة.

إذاً، بدت الفضلات من العلب الفارغة كأنها كناية عن سخرية من مبادئ دافعت عنها النظرية العالمية الثالثة، ووردت في الكتاب الأخضر، الذي وضعه القذافي بديلاً عن الرأسمالية الاستغلالية والاستهلاكية الملحدة والمادية:

ويرى الثوريون برومانسية مفرطة، أنه من غير اللائق أبداً، أن يقوم أياً من المواطين الليبيين بجمع القمامة […]. إلا أنهم في الوقت ذاته، أهدروا الموارد المالية بجلبهم اليد العاملة الأجنبية من الخارج، مما يعارض المبادئ الثورية الداعية إلى الاكتفاء الذاتي. وكان وضع المتنزه يومئذ، يقف عند مفترق طرق بين الواقع والخيال. فبالرغم من أهماله، إلا أنه أصبح ملاذاً للزوار بمختلف مشاربهم، مثقفون يقضون أوقات في الكتابة والقراءة، وشعراءً يلقون قصائد شعرية، وعشاقٍ يمازحون بعضهم، ومهربون المخدرات يحاولون بيعها. لكن الأمر العجيب هو ندرة تردد بائعي الخمور وحدوث اعتقالات لحوادث إجرامية. فخلافاً لما هو متوقع، ظل المتنزه مكاناً يأوي الجميع.

وتمضي الصورة الرمزية التي تصف وضع ليبيا من خلال وصف أسرتي فاطمة ومختار، اللتين مثلتا رمزين لوضعين اجتماعيين مختلفين، وبالتالي لموقفين سياسيين متباينين:

جاءت فاطمة من أسرة متواضعة ومحافظة. كان والدها موظفاً لدى وزارة الأوقاف. أما أسرتها المتواضعة التي استفادت من التطور الاجتماعي آنذاك، فإنتقلت إلى إحدى الشقق التي بنيت من قبل شركات بولندية، وبلغارية ومصرية، ويومئذ بدأت تتعامل مع الأجهزة الفاخرة والحديثة، مثل الثلاجة والهاتف، وجهاز الأقراص الدوارة. مما أتاح لهم فرصة تثقيف أنفسهم، والعثور على وظائف، والتقدم للحصول على قروض بنكية. […] تلك الأسرة أصبحت ميسورة الحال بدأت سفرياتها إلى أوروبا وأمريكا، لغرض السياحة والدراسة. متمتعين بالأسلوب الجديد للحياة المرفهة التي شهدتها سنوات 70، ما جعلهم يتشبتون بالثورة، وبسياسات عبد الناصر وبالقومية العربية. ويذكر أن جيل بطلتنا كان آنذاك مولوعاً بالفنانين فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ.

ثمة انطباع هنا، كما في الصفحات الأخرى من الرواية، أن الكاتب يدعو إلى التفكير في أمر مخالف لما تحول فيما بعد إلى دكتاتورية القذافي، يتمثل في أن نظامه تعهد في بادئ الأمر بسلسلة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية لصالح الشعب الليبي. وتكون مخالفة لسياسات الشلالية الاجتماعية وأصحاب النزعة الغربية التي طبعت الحقبة الملكية التي مثّلهَا في الرواية الأفندي عمر والد مختار، وكان يتولى منصب القائد الأعلى للحرس الملكي، ووصفه الكاتب على أنه يكنُ «ولاءً لا يتزعزع للملك ولمملكته المباركة، وظل وفياً حتى بعد إلغاء النظام الملكي […].  أحبه وأعتبره رجلاً مقدساً، أيِ “مرابط” كما يقول الليبيون». كان والد مختار رجلاً ذو طبيعة متناقضة ومنافقة إلى حدٍ كبير وتجسد في داخله التفكك الاجتماعي والسياسي للبلاد، فهو مشتت بين النزاعات القبلية والانقسامات الإقليمية. وهذا ما ستقرأه عنه:

فلم يكن الأفندي عمر شخصية متدينة إلى حد عميق. بل إنه كان يحتسي الخمر، وفي مستهل حياته المهنية كان من بين الزبائن المترددين على شارع الكندي. لكنه كان يؤمن بالتبركات، أي بالبركة الإلهية من الملك. كان يحافظ على صيام شهر رمضان والتردد على تأدية صلاة الجمعة. ولنقل أنه كان رجلاً محافظاً على التقاليد، إلا أنه كان قادراً على شرب كميات كبيرة من الكحول إلى حدِ الإغماء عليه، ومع ذلك، فإنه كان يقوم في اليوم التالي ليتوضأ ويصلي بخشوع، وصدق عميقين. أصبحت هذه الغرابة ديدنه. فهو لا يتردد أن يطلق النار على الطلاب(11)، بينما في الوقت ذاته يتألم بحسرة على موتى قضوا نحبهم في حادث سير.

وتبدو الحياة التي أختارها الأفندي عمر مفككة بشكل كبير، فعندما ترك المدينة وتوجه للعيش في الريف، حيث يمكنه اللهو كلَ ليلة خميس، مع الفتيات والمسكرات بحرية تامة، بعد أن تأمنها له القوادة “غويلية”. حدث أن تعرف في إحدى تلك الليالي على فاطمة، التي جاءت إلى عالم الدعارة بنية توفير ألف دولار أمريكي، بغية السفر إلى تركيا، لشراء كميات من العلكة، لبيعها عقب عودتها إلى ليبيا بثلاث أضعاف تكلُفَتّها. قد سمحت لها هذه التجارة المربحة الإستغناء عن رعاية أسرتها، والاتجاه لشراء بيت وسيارة والتمتع بحرية أختيار زوجٍ لها. أما الأفندي عمر البالغ يومئذٍ من العمر سبعون عاماً، فظل مهوساً بفاطمة وجمالها، إلى الدرجة التي جعلته “يجلس إلى جانبها لفترة طويلة من الزمن، قبل أن يستلقي بلطفٍ بقربها، كأن مسام جلده تمتص حرارة جسدها الغض، في صورة تشبه ما حدث مع بطلة رواية  (منزل الجميلات النائمات) للكاتب الياباني المتحصل على جائزة نوبال للآداب ياسوناري كواباتا(12). لذا افتتن بها، ورغب في الزواج منها، تماماً كما “تصور عادة بعض الأفلام العربية الميلودرامية عندما يلتقي رجل غني بفتاة فقيرة […]. ولأن الأمر كان يَسْيّرُ كما هو في الأفلام العربية، فإن الأفندي عمر كان يجهل أن الفتاة التي عشقها هي ذاتها التي عشقها من قبله أبنه الوحيد مختار، الذي كان ينتظرها واقفاً تحت هطول الأمطار الغزيرة. وفي المقابل كانت فاطمة هي الأخرى غافلة عن حقيقة أن الرجل الذي أمامها، والذي منحته جسدها النحيل، هو والد مختار الذي ابتعدت عنه، وتركته منذ زمن بعيد”. عند هذه النقطة يقترح ابوشناف على القارئ، إجراء مقارنة بين مصير فاطمة ومصير بطلة رواية (بئر الحرمان)، الصادرة سنة 1962″، للكاتب المصري المعروف إحسان عبد القدوس (1919 – 1990). لكنه يستدرك ويؤكد أن بطلة رواية (بئر الحرمان) كانت “عاهرة” دون وعيٍ منها، كما لو أنها تعيش حالة من الغشية. بينما بطلته فاطمة كانت تعي ما تقوم به، ولذا فإنها لم تكن تعمل ليلاً، بل إن جلّ تحركاتها كانت في وضح النهار”. ويضيف الكاتب علاوة على ذلك:

في الواقع فاطمة لم تقرأ رواية (بئر الحرمان) فهي رواية مصرية(13)، بل إنها لم تشاهد الممثلة المصرية سعاد حسني، التي جسدت الدور الرئيس في النسخة السينمائية للرواية(14). ورغم تحررها إلا أنها لم تذهب يوماً إلى قاعات العرض السينمائي. وكلُ ما شاهدته كان عبارة بعض المسلسلات المصرية ذات الطابع الكلاسيكي، التي تعرض على شاشات التلفاز، ويكون تصويرها قبل صدور رواية “بئر الحرمان” بسنوات عدة. وعلى أي حال، فهي قامت بالدور ذاته الذي لعبته الممثلة سعاد حسني.

لقد ظل الوجود الإيطالي في ليبيا عنصراً راسخاً في جميع الأحداث التي نقلتها الرواية: كالسجناء الإيطاليين أثناء الحقبة العثمانية، والجنود الصقليين، والفن الإيطالي. فمنذ الفصل الأول من الرواية نقرأ أن مختار كان يترقب الفرصة، كي يلتقي بفاطمة تحت ظلال أقواس وزارة الداخلية، تلك الأقواس التي كانت نتاج “عبقرية المعماريين الإيطاليين”. وكان يرغب في الحقيقة اصطحابها إلى المتحف، حيث يمكن للعاشقين الاختلاء بعض الوقت خلف التماثيل الرومانية الكبيرة. ومن المتحف ذاته يقدم لنا الكاتب عنصراً رمزياً آخر في الرواية ذي علاقة قوية بالوجود الإيطالي، ألا وهو تمثال تم نحته في القرن التاسع عشر “يصور مرأة تنحني بجسدها إلى الخلف، وعيناها مغلقتين وشفتاها متعاقدتين كأنها تنتظر قبلة من أحدهم. كانت هذه المرأة من الحجر تبدو في عين بطلنا كأنها المنحوتة الأكثر واقعية بين منحوتات المتحف، بل والمدينة بأسرها”.

كان التمثال وتاريخه فرصة أخرى كي يُعيد الكاتب قراءة المراحل الاجتماعية –  السياسية في البلاد وبمنهجة رمزية. وحول هذا كتب المؤلف: إن قصة التمثال، هي قصة تتأرجح بين “ألم وشهوة”. وأن نحاتاً إيطالياً كان معتقلاً لدى بآشا طرابلس لمدة طويلة هو من قام بنحته، وربما إستخدم لأجل ذلك حجارة أقواس رومانية، كان الأتراك يريدون استخدامها في بناء القصور والمساجد. وعندما إكتشف الحراس الأتراك أمره أبلغوا البآشا على الفور بالحادثة، حتى يقفه عما إعتبر آنذاك “أحد الأفعال الأشدُ ضلالة”. إلا أن البآشا تجاهل الأمر، وترك “الإيطالي يكمل نحت طريقه نحو جهنم”، وبذا أنجز التمثال ليصبح عملاً فنياً، “يتحدى أي نموذج جمالي سواء كان، رومانياً أو إغريقياً أو إسلامياً، ولم يكن للتمثال علاقة بأية حقبة تاريخية. ووفق تعليق أحد الكتاب الساخرين، فإن التمثال “يشبه زانية يتيمة”. […] . ويبدو أنه تأليف نادر وغريب بين تمثال “داود” لمايكل انجلو ولوحة “موناليزا” ليوناردو دا فينشي”. إلا أنه مع مجيء الاحتلال الإيطالي، عرف التمثال مرحلة أخرى تتمثل أن:

أحد الجنود الإيطاليين مدفوعاً بقناعة أن ليبيا بلدٍ وثني، حاول تحطيمه معتقداً أنه “صنم معبود”، وكان يظن أنه بفعلته هذه سوف ينظر إليه على أنه أحد المُخلصين. ولولا تدخل رفيقه، لتحطم التمثال، ولفقد مختار بوصلته في الوجود. لقد طلب منه صديقه الصقلي وهو رفيقه في السلاح أن يسلمه عوضاً عن تحطيمه. إلا أنه كان يقوم كل ليلة بالتَمْسُحِ على جسد المرأة الحجر، يقبل شفتيها ويستمني أمامها، حتى إنه جنّ بأفعاله هذه في نهاية الأمر، ووقع قتيلاً على يد أحد رفقائه بعد أن اكتشفه يطوف حول السرايا الحمراء ليلاً عارياً دون استحياء. […] لكنه ذفن بشكل مشرف وأخفي التمثال في ركن قصي من السرايا. ثم رأى النور مرة أخرى، بفضل فريق من الآثاريين الإيطاليين.

ومن السهل هنا أن ندرك أن التمثال كان صورةٍ رمزية تم ترسيخها أثناء الحقبة الاستعمارية، وهي الصورة التي صورت ليبيا على أنها بلد أفريقي و”جنة من الشهوات” ويجدر التذكير هنا بما يلي:

لقد غذى الإيطاليون خلال مطلع القرن الماضي، الصورة النمطية حول ليبيا، بل وحول القارة الأفريقية جمعاء، بما شكله الأدب الإستعماري في الأساس من كتابات لمسافرين ومكتشفين وروايات صدرت أثناء التوسع الامبراطوري، متخذة ثلاثُة مسارات رئيسة على الأقل هي: المسار الأول الذي قدم أعمالاً تهدف لتأكيد الحق الإيطالي في طرابلس الغرب، بإعتبارها إحدى ضواحي الامبراطورية الرومانية القديمة، ما يعني أن انتماءها يكون إلى الإيطاليين اليوم، لأنهم ورثوا امبراطورية الرومان. […] أما المسار الثاني من هذا الأدب فإنه قد سجل انتعاشاً بفضل إنتاج نصوص شعرية ونثرية، تحتفي بليبيا كأرضٍ للجمال المغري، ومباحة، تنتظر الرجل الأبيض. وجاء هذا المسار ضمن سلسلة واسعة من الكتابات الاستعمارية التي قدمت صور “فينوس السمراء” على أنها أيقونة للمرأة الأفريقية. […] وذهب المسار الثالث إلى تقديم صورة عن المرأة الليبية التي صورها مضطهدة، مقموعة، حبيسة الدين الإسلامي، تنتظر فقط أن ينقدها مجيء الإيطاليين، باعتباهم يمثلون رمزاً للتقدم الحضاري، محررها من البربرية ومن تخلف المجتمع العربي – المسلم.

في سياق تتبع السرد الروائي، يتضح لنا أن البريطانيين تجاهلوا وجود التمثال، فلم “يكن يوماً همهم الإرث التاريخي لهذا البلد المضطرب، إنما كان همهم الأول هو وضع البلاد بين يدي السنوسيين، الذين أعلنوا بدورهم أن التماثيل والنحاتين هم حطب جهنم”. ومن جانبهم رأى الثوريون أن ” يتصدوا من جهة بازدراء للإرث الروماني ورموزه الإمبريالية، ومن جهة أخرى أن يرسخوا الوعي بأهمية المنحوتات التي كانت تمثل عظمة الفتوحات العربية لتلك الأوطان. لذا رحبوا بتماثيل ومنحوتات، وفي الوقت ذاته تصدوا لتماثيل أخرى. أي أنهم كانوا ينظرون إلى التماثيل الرومانية على أنها أصنام، بينما اعتبروا التماثيل الفنيقية أو الإبداعات العربية الحديثة على أنها فنون سامية،”. وعلى كل حال، فإن تمثال المرأة ظل يسحر الرجال الغاوين حتى أفقدهم صوابهم، ومن بين هؤلاء كان أستاذ علم الآثار، الذي كان يعتقد أن التمثال “تجسيد للجمال والعنف، وللسكون والحراك، وللمتعة والألم، ولما هو ملائكي وشيطاني، ولما هو أنثوي وذكوري. فكلهن حوريات دريادس ولدن في الأسر، في زمن غياب الحريات. القلة كانوا يخبرون تلك القطعة الفنية ولديهم وعيٍ بهذا التناقض الجوهري. فالمرأة التمثال كانت إنعكاساً لمشاعر حميمة من الرغبات المتناقضة لدى النحات”. وبالتالي تبدو كأنها انعكاس لأيدلوجيات متناقضة طبعت تاريخ البلاد. فهي بطاقتها الأوروتكية الغامضة، ظهرت أيضاً كأنها كناية عن بحثٍ مستمر، وعن هوس بالجمال الأنثوي، وعن قدرة على الإغواء، في صياغة ثقافية تصور القمع والاضطهاد. ولنعد هنا إلى الوجود الإيطالي في ليبيا، لنجد أن ابوشناف إقتفى دروبٍ أدبية كان قد إقتفاها من قبله أدباء ليبيون آخرون، مقترحاً بعض الحقائق التاريخية عن الحقبة الإستعمارية وفقاً للرؤية الليبية. وها هو يدين واصفا ممارسات العنف والقوة لـ”طلينة” المدن الليبية:

وفي خطوة أخيرة، بعد خنقهم للمقاومة، بدأ الإيطاليون المستعمرون في تقسيم مدينة طرابلس إلى مناطق ومقسمات، كما لو أنها مدينة إيطالية. وبذا تأسست مراكز الشرطة، والمباني الحكومية، والحانات، والكازينوهات، والمسارح، والمتاحف، والمصانع، وغيرها من المرافق، حتى أضحت طرابلس تبدو إلى حدٍ كبير مدينة إيطالية. بل إن ما تبقى من متنزه البآشا الليلي، تم إعادة تصميمه وفقاً للذوق الإيطالي، تماشياً مع الذائقة الحضارية. ولتمهيد الأرض وشقها تم استئجار مئات المواطنين الليبيين وما يملكونه من أبل وحمير. وأضحى المتنزه يليق بأية مدينة إيطالية. ومن هنا التفتت طرابلس المزدحمة عاصمة الشاطئ الرابع، نحو كعب الحذاء الإيطالي الذي ظل جامداً عبر التاريخ، خوفاً من أن يبتل في مياه حوض البحر المتوسط.

ويقدم هذا المقتطف تشابهاً قوياً مع فقرة من الرواية الضخمة للكاتب أحمد إبراهيم الفقيه “خرائط الروح”، لاسيما في جزء المخصص لفترة الاحتلال الإيطالي لليبيا. وما يتعلق منها بإضفاء الطابع الإيطالي على طرابلس، حيث يقول بطل ملحمة الفقيه: الأمر الذي يفاجئك في المقام الأول حينما تحاول التعرف على مدينة طرابلس، أن الناس هنا يختلفون عمن هم في قريتك. الناس هنا يرتدون ملابس أوروبية وليست كتلك الملابس الشعبية التي يرتديها أولاد الشيخ. بل إن الملامح هنا تبدو مختلفة مقارنة بملامح القرويين: فأبناء قريتي لديهم بشرة سمراء، بينما وجدتها هنا فاتحة اللون تميل إلى الحمرة. فمنذ اليوم الأول من وصولك، لن يكن من الصعب عليك أن تدرك أن طرابلس لم تعد المدينة العربية الليبية التي كنت تتخيلها، بل هي كما اكتشفتها الآن، مدينة إيطالية بكل ما تعنيه الكلمة. […] عندئذٍ وبشكل مضطرب، بدأتُ في البحث عن الليبيين. قطعت هذا الطريق متمعناً في وجوه الزبائن الجالسين عند طاولات المقاهي على طول الرصيف. متجولاً في الأسواق، وبين المتاجر وأماكن التفسح، دون أن أعثر عن طريقٍ باسم عربي، أو مقهى عربي، أو مطعمٍ عربي أو محالٍ يرتادها العرب، إنما صادفت القليل من الليبيين فقط، يكادون أن يذوبوا وسط هذا الإزدحام من الإيطاليين. بل إن آذان الصلاة لم أسمعه إلا في اليوم التالي من وصولي للمدينة، ومكوثي تلك الليلة في أحد الفنادق. ولكن ما إن توغلتُ في الشوارع الخلفية، وبين الأزقة التي تحيط بالفندق بحثاً عن مسجد يمكنني الصلاة فيه حتى أكتشفتُ أن هذه هي الشوارع التي يختفي وراءها الليبيون، بعد أن إحتل الإيطاليون المدينة بأكملها.

وهذا مقطع آخر تاريخي جاء في رواية العلكة حول “فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا” يذكر ببعض النصوص القصصية التي صدرت أعوام الستينيات للأديب على مصطفى المصراتي (1926)، الذي يعد أحد أهم الوجوه الثقافية الليبية بل وحتى العربية بشكل عام، وحول ما يتعلق بالليبيين “المتطلينين”. كتب ابوشناف قائلاً عن متنزه طرابلس:

القليل هم الليبيون الذين خاطروا للدخول إلى المتنزه. فالشرطة الإيطالية كانت تمنع كل من يحاول التسكع هناك من المتشردين والمتسولين. وكان بعض الشباب الليبيين الذين إختاروا أن يخالطوا المستوطنين الإيطاليين، محاولين محاكاة تقاليدهم وأسلوب حياتهم. قد عُرف هؤلاء الشباب بالليبيين الجدد. ولولا سُمرة بشرتهم ووضعهم الطربوش، لاعتقد من يرأهم أنهم إيطاليو المنشأ. كان من بين هؤلاء، شعراء، وأبناء تجار وموظفي الحكومة الاستعمارية ممن لديهم طموح سياسي، كما أنهم كانوا مخبرين للشرطة السرية. وأصبح المتنزه فضاءً مغلقاً للإيطاليين، إلا إذا استثنينا وجود بعض النخيل، وبعض العمال الليبيين والليبيين الجدد، وعلى أي حال، فإن الزائر إليه سوف يعتقد أنه يتجول في أحد المتنزهات الإيطالية.

ثمة شخصيات أخرى تشكل عنصراً مهماً في تفاصيل الحبكة السردية لرواية العلكة. من بينها شخصية “رحمة”. وهي والدة الشاب مختار، تبلغ من العمر الخمسين عاماً، ورغم هجرِ زوجها لها، إلا أن زهرة شبابها التي تعكس أصولها التركية لم تذبل بعد. بل عهد إليها الكاتب في نهاية الرواية رسالة أمل لمستقبل البلد. ففي الفصل ما قبل الأخير، نقرأ عن لقاءات وعن عشق بينها وبين أستاذ لمادة الفلسفة، بعد أن أصبحت أرملة في تلك الأثناء، فهي تتعاطى الخمر وتدخن النرجيلة بل وتخوض في مسائل الجنس والأمور الدينية للمسلمين، كما لو أنها كانت حفيدة لكمال أتاتورك، ورغم أنها أمية، ولا تعرف من يكون أتاتورك أصلاً. إلا أنها كانت علمانية بالفطرة. وهي أقرب أن تكون سيمون دي بوفوار، العالم الثالث […]. وبها يمكن أن تكون ليبيا بلداً رائعاً !

فكليهما لم يناقشا مسالة زواجهما، وبالتأكيد لم يتطرقا لمسألة المهر. إلا أنهما كانا يدركان أنهما زوجين خارجين عن المألوف، في زمن ومكان غير مألوف. فبعد أن احتسيا القهوة وشرعا في المغازلة، توجها بإرادتهما نحو الفراش الزوجي لممارسة الجنس، كما كتب على أيّ محبين أن يفعلا، دون مراسم دينية بالضرورة فهما قررا أن يظلا رفيقين حتى آخر يوم من عمرهما، وفقاً لقانون الإرادة الحرة.

ويبدو مما تقدم أنه يفتح المجال لتفسيرات “أنثوية” للرواية، وفي الوقت ذاته يذّكر بمضمون أغنية إيطالية(15) جريئة إلى حدٍ كبير، ظهرت في سبعينيات القرن المنصرم تتغنى بالحب بإعتباره اختيار حرّ عادي، أي حب “لا تقيده أوراق وأختام”. وبغض النظر عن ذلك كله، فإن محتوى الأغنية ربما يحفزنا ويجعلنا نتمعن في أن، ليبيا قد تتجاسر في يوم ما لأن تحرر نفسها من العوائق الاجتماعية والثقافية التي اضطهدتها لعشرات السنين وأن تنطلق نحو مسيرة من التحرر وكسبِ الحقوق الإنسانية ولن يتأتى لها ذلك إلا من خلال الحب. هذا فقط مفتاحٍ للقراءةِ، الذي يبدو أنه يجد ما يسانده فيما جاء بالفصل الأخير من الرواية، عندما يُفَهْمُ أن مختار الذي عانى طويلاً من مشكلة التأتأة، سوف يشفى بفضل إقناعه من قبل أستاذ علم النفس الذي استطاع أن يفهمه أن “التأتاة ليست بالعار، وإنما هي من تبعات الضغوط الاجتماعية، وأن منشأها الأول التربية الأسرية ومن ثم تغذيها الشوارع والمؤسسات التعليمية”. عند تلك النقطة، نرى أن مختار استطاع أن يصحو من ذهوله، مغادراً المتنزه، ذاهباً للباحث عن حبيبته فاطمة، وقد تبدو هذه النهاية تافهة، نظراً للحبكة المتشابكة والمعقدة للرواية، لكن ربما أراد الكاتب أن يذكر أنه رغم الظروف القاسية من التمزق وحتى الغضب والضياع، تظل المشاعر الأكثر بساطة، والأقرب إلى الروح البشرية، هي من ستنتصر في نهاية الأمر. مما يعني أن الحب سيبقى الحاجة التي نبحث عنها لمقارعة الحواجز التي تقف أمامنا، سواء كانت مادية أو معنوية، مفسحاً المجال أمام الشعب بأكمله لأن يبعث الحياة في ثورات حقيقية كما حدث سنة 2011، وعندئذٍ يمكنه النهوض. ولذا فإنه من الأفضل أن أختم هنا مشيرة إلى اقتباس لاتيني شهير، إنه اقتباس لا يعرف حدوداً زمانية ولا مكانية لقائله فيرجيل(67) يكتب: (الحب سوف ينتصر على كل شيء وعلينا أن نستسلم للحب).

___________________________________________

نشر في مجلة أرابيليت لشهر يونيو 2017

هوامش:

*  أستاذة شرف للغة وللآداب العربية بقسم اللغات والآداب والثقافات الحديثة، في جامعة غابرييلي دانونزيو بمدينتي كييتي وبيسكارا.

(1)–  المجموعة القصصية (سجنيات) للقاص عمر أبو القاسم الكقلي، صدرت عن دار الفرجاني، طرابلس 2012. للاطلاع على الدراسة حول المجموعة، يرجى العودة إلى ألفيارا ديانا، (سيرة ذاتية للسجون في الأدب الليبي: سجنيات “اسكتشات من السجن” لعمر أبو القاسم الكقلي)، “مجلة عربليت”، العدد الخامس  9-10 ديسمبر 2015، من الصفحة  9- 22. http://www.arablit.it/ rivista_arablit / Numero9_10_2015 / 5Diana.pdf.

(2)- يتعلق الأمر بروايتي (لافية ) 2009 و(تغريبة أولاد الحارة) 2010، للكاتب علي عبدالمطلب الهوني وكلا الروايتين نشرتا من قبل مكتبة مدبولي بالقاهرة. ولكن رواية (لافية) نشرت قبل ذلك في طرابلس 2007 عن دار النخلة.

(3)- رواية (العلكة) ترجمة منى زكي  لمنصور أبوشناف، صدرت دار دارف للنشر، لندن 2014.

(4)- ولد منصور ابوشناف في مدينة بني وليد الواقعة جنوب شرق مدينة طرابلس. درس في مدارس بلدته بني وليد ثم في مدينة مصراتة. يعيش حالياً في طرابلس، ونشرت مقالاته في صحف عربية عديدة منها “الحياة” و”القدس العربي” و”بوابة الوسط”.

(5)- مذبحة الأبرياء وهي مذبحة قام بها هيرودس الكبير وذكرت في إنجيل متى الذي يقص أن الملك هرودس أمر بذبح كل الأولاد الذكور في بيت لحم ليتجنب فقدان ملكه إلى “ملك اليهود” المولود الذي أعلن المجوس ولادته. (ويكيبيديا).

(6)- من الملاحظ أن النسبة المائوية للأمية بين الليبيين كانت مرتفعة فترة الاستعمار الإيطالي، نظراً لفرض المدرسة ونظم وبرامج اللغة الإيطالية على الليبيين، وهو ما نظر الليبيون على الدوام بعدم الثقة.

(7)- نورا اسماعيل صحفية وكاتبة بريطانية من أصول آسيوية، ولدت وتعمل في بريطانيا وهي مختصة باللغة والأدب العربي، أسست وتدير مجلة (ثقافة) الإلكترونية التي تهتم بالشؤون الثقافية والأدبية في العالم العربي والشرق الأوسط.

(8)- جاء هذا التعليق على الرواية في موقع الإلكتروني لدار “دارف للنشر- Darf Publishers” في لندن.

(9)- دراسة بعنوان (السيرة الذاتية للسجون في الأدب الليبي: سجنيات “اسكتشات من السجن” لعمر أبو القاسم الككلي). لأليفارا ديانا، ص 14.

(10)- جون كينز (1883-1946)، وهو خبير اقتصادي بريطاني معروف.

(11)- هنا نشير إلى المظاهرات الطلابية التي تم قمعها بالرصاص التي كانت موجهة ضد السياسات المحافظة للنظام الملكي ووجود قواعد عسكرية أجنبية على أرض ليبيا.

(12)- اسوناري كواباتا ولد في 14 يونيو 1899 والمتوفى في 16 ابريل 1972 روائي ياباني أهله إبداعه النثري المكتوب بلغة شعرية راقية وغامضة للحصول على جائزة نوبل للأدب 1968وهو أول أديب ياباني يحصل على تلك الجائزة العالمية.

(13)- يصف ابوشناف بئر الحرمان بانها رواية ، لكن السير الذاتية للكاتب المصري إحسان عبدالقدوس، يتم تقديمها على أنها قصة طويلة، وتجدر الإشار أن مسألة تصنيف الأعمال الأدبية دائما ما تثير جذلاً كبيراً في العالم العربي (أليفارا ديانا).

(14)- تم تصوير الفيلم الذي يحمل نفس اسم رواية (بئر الحرمان) في عام 1969 تحت إشراف كمال الشيخ.

(15)- الذكرى (1976) هي إحدى الأغاني المغني الإيطالي” دومينيكو مودونو” من ألبومه 23 الصادر تحت هذا العنوان.

(16)- بوبليوس ورغيليوس مارو أو فرجيل ولد في 15  أكتوبر 70 ق.م. – 21 سبتمبر 19 ق.م.) شاعر روماني)

مقالات ذات علاقة

قصائد من البنجاب

عطية الأوجلي

لا شيء

غازي القبلاوي

تأملات في المجتمع المدني

عطية الأوجلي

اترك تعليق