بكل الغبطة والجرأة والبهجة تعزف عصفورة الشعر الأردنية غدير حدّادين سيمفونيتها الرقيقة (سأكتفي بعينيكَ قمحاً للطريق)(1) التي تبوح فيها بست وثلاثين دفقة شعرية عذبة المفردة وعميقة الدلالة، ضمّنتها ديوانها الثالث وعنونته بذاك الإعلان الصريح المبهر، وكأني بها تعانق فيه طيف حبيبها المعشوق، ونبض وطنها المجيد، وهي تمرح كطفلة مكتظة بالبراءات والمسرات كلها، أو فراشة جميلة زاهية الألوان تطير فلا تخشى النار واللهب، أو كوردة عبقة بالعطور والرياحين لا تأبه أين يكون مداها أو من يتنسم شذى عبيرها.
إن العنوان (سأكتفي بعينيكَ قمحاً للطريق) وصورة الشاعرة صاحبة الديوان بتقاسيم وجهها الوضاء، ونظرة عينيها الساحرتين، وابتسامتها الآسرة، والخط الواضح المكتوب بالركن الأيسر من الغلاف المطبوع باللون الياسميني الأبيض يحمل جاذبية قوية لخوض مغامرة اكتشاف صوت من الأصوات الإبداعية، ويبعث نشوة متجددة، ورغبة متوقدة لولوج العالم الشعري الذي تنسجه المرأة الأردنية، والغوص في مضامينه وصوره الجمالية المتنوعة وإن ظلت جميعها في إطار ملامح وموضوعات الشعر النسوي العربي كافة.
فالتجربة الإبداعية للمرأة العربية إجمالاً والشعرية على وجه الخصوص لازالت لم تخلع عنها رداءاتها التقليدية القديمة، واستمرت في انقيادها لإرث قوالب النص النمطي الذي لا يثير الزوابع والأسئلة الجدلية العميقة، ولا يسبح في بحار متلاطمة وهادرة، بل لازال يمرح عند حافة حدود الشواطيء الرملية الناعمة، يلاطف الأمواج الحانية والنسائم المنعشة بكل شغف وحنو، عبر دائرة تكسوها نفس النعوت والمصطلحات الضيقة مثل “الكتابة النسائية” أو “الشعر النسوي” أو “أدب المرأة” أو غيرها من الإطارات الأخرى التي لا تتعلق بالتصنيفات الأدبية الموضوعية، بل تحاول تقزيم الدور الانساني لإبداعات المرأة العربية وجعلها رهينة تلك المصطلحات السجنية، وهنا لابد من الاعتراف بكل مرارة وأسف أن المرأة العربية نفسها قد استكانت واستجابت لتلك الرغبات وارتضت بها، ولم تغتنم كل الفرص والتحديات التي أتيحت لها لخلع تلك العباءة التقليدية البالية والتحرر من المصطلحات الفنية القاصرة والنعوت العقيمة وتجاوزها.
ففي ليبيا على سبيل المثال منذ أن صدر أول ديوان لشاعرة ليبية بعنوان (في القصيدة التالية أحبك بصعوبة)(2) للأستاذة فوزية شلابي سنة 1984، رغم أن نشر المرأة الليبية نصوصها الشعرية في الصحف والمجلات قد سبق ذاك التاريخ بفترة بعيدة خلال القرن الماضي إثر صدور أول مجموعة قصصية ليبية سنة 1957 بعنوان (القصص القومي) للأديبة الراحلة زعيمة سليمان باشا الباروني، وإن كان ذاك النشر متخفياً وراء أسماء مستعارة نتيجة القيود الأسرية والمناخات الاجتماعية الظالمة بحق المرأة، فقد ظلت القصيدة النسائية الليبية كتابة نمطية وأسيرة الجوانب الشخصية للذات الشاعرة، تنقل فيها أحاسيسها ومشاعرها وعواطفها، وتتناول أحداث الشأن الاجتماعي المعاش وتوثق بعض الوقائع الخاصة أو الوطنية، وجلّ ملامحها العامة هي في الغالب صدى للأصوات النسائية في المشرق العربي التي سبقتها وبالتالي عملت على تقليدها حتى في توجهاتها وتعاطيها مع المسائل والقضايا القومية والإنسانية، ولم تنطلق بعيداً عنها لتؤسس إرهاصاتها الفكرية الذاتية والفلسفية العميقة الخاصة المتعلقة بها، أو تبرز خصائص شخصية الهوية الوطنية وبصمتها المتميزة، أو تواكب المستجدات العصرية وإطلاقها في نصوصها الإبداعية الشعرية والنثرية، وللأسف فإنه حتى الوقت الراهن لم يتم التخلص من هذا النهج الموروث منذ عقود بعيدة.
والشاعرة الأردنية غدير حدادين تملك في رصيدها الشعري ديوانين صدرا خلال فترة متقاربة هما (أحلمُ كما أشاءُ) سنة 2012، و(أشبهني) سنة 2014 وهي كصوت شعري يعد امتداداً لمسيرة أردنية عريقة عبّدتها العديد من الرائدات الفضليات على رأسهن الشاعرة فدوى طوقان بإصدارها ديوان (وحدي مع الأيام) عام 1952 والتي تحسب أحياناً على الشعر الفلسطيني، والدكتورة ثريا ملحس بإصدارها ديوانها (القربان) في نفس العام، والشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي بإصدارها ديوان (العودة من النبع الحالم) خلال سنة 1960 ثم توالت الأقمار الشعرية الأنثوية الصادحة في المدونة الشعرية الاردنية والتي أضافت الكثير من النصوص والقصائد المتنوعة في الإيقاعات والصور الشعرية والأساليب والأنفاس التعبيرية وإن ظلت مضامينها لا تغادر كلاسيكية اهتمامات النص النسائي العربي.
جاءت عناوين النصوص الشعرية في ديوان (سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق) للشاعرة غدير حدادين مواكبة لروح ومظاهر الحداثة الشعرية ومتوافقة مع متونها ومضامينها التعبيرية، حيث اقتصر كيان عتباتها وعناوينها اللغوية على المفردة الواحدة مثل (الكمان) و(تشبهني) و(أنت) و(غرائز) و(رحيل) و(حظ) و(قناديل) و(يحدث) و(ضجر) و(عناوين) و(أرجعيني) و(لقاء) و(بدايات) و(أمي) و(ذاكرة) و(عيناك) وهو شكل فني لإيحاء استهلالي يعكس سحر وقوة جاذبية العنوان للإبحار فيه واكتشافه، سواء بالتمعن في مفرداته، وسياقاته، ولغته، ودلالاته الرمزية، وإيقاعه الموسيقي الشجي، أو أسلوبيته التعبيرية في التعاطي مع فكرة النص، أو التدبر في مدى تطابق ذاك العنوان المفرد مع مضمون ومحتوى النص الشعري بأكمله وقدرته على احتوائه واختزاله في مفردة واحدة. وفي جانب آخر أيضاً يمكن أن يحتفظ ذاك العنوان المفرد بجميع أسراره تاركاً القاريء في تفاعل تأملي فكري وتجاذب وجداني لا يحد، وهذا بلا شك يمنحه الكثير من التشويق والدهشة التي تعد أبرز خصائص النص الشعري.
وبجانب ذلك فقد ظهرت بعض العناوين الأخرى في هيئة جمل مختلفة مثل (أغنية في الحلم) و(بقعة صغيرة) و(أكتبُ لعينيك) و(بلا عنوان) و(حنين من سلال الماضي) و(عناوين للحنين) و(غناء أخير للمسافات) و(سلالةٌ جديدة من الفرح) و(عزاء وحيد) و(غيرت ملامحي) و(في مهب الأمنيات) و(وداع جديد لسنة قديمة) و(أعد اسمي) و(كمين بين نهارين) و(دلني إليك) و(أغنيات للغد) و(تعب وأحلام) و(اعتراف طوعي لبيروت) وهي تحمل دعوات أكثر وضوحاً وأبسط فهماً لاقتحام النص الشعري، وتزويد القاريء بتأويلات وتخمينات أبعد للاقتراب من مضمونه وفكرته ورسالته.
إن لذة الاستمتاع بالنص الشعري والغوص في دهاليزه لاكتشاف بعض مكامنه وعرض خفاياه هي غاية ليست سهلة الإدراك، لأنها لا تتحقق إلاّ بالتفاعل العميق مع لغته الرقيقة وصورته التعبيرية الخلابة بأنماطها الحسية والذهنية والرمزية والسمعية والمرئية وتطوراتها أو ظهورها في النص الشعري بشكل متجدد، والتوحد فيها بكل العشق الروحاني، لذا تظل هذه العملية تكتسي طابع المغامرة والشغف، للتعرف على بعض الجماليات التي تتفتح تدريجياً كلما تعمقت القراءة في ثنايا النص الشعري، والذي نجده عند الشاعرة غدير حدادين يتسم بسهولة المفردة اللغوية المتأنقة، ورقتها ودلالاتها التعبيرية العميقة، حيث جاء الديوان مكتظاً بالبهجة والحلم الذي تمثلته الشاعرة في عدة صور متنوعة تختلف حسب كل دفقة شعرية تبوح بها مكنونات النفس الشاعرة. كما اكتسى الديوان خاصية مهمة وهي ابتعاده عن ظلامية الشجن والحزن والتشاؤم حين أفرد معظم أجنحة نصوصه لأبواب المستقبل المفعمة بالأمل والتفاؤل بجميع أصنافه، عكس معظم دواوين الشاعرات العربيات اللاتي يختلقن قضايا ظلم اجتماعي أو صراع فكري واهم مع الرجل.
أما أبرز المضامين التي تناولتها الشاعرة الشابة في هذا الديوان فقد تمثلت في الانشغال بالوطن والهوية، والذات الإنسانية، والسؤال، والعلاقة مع المكان والمدينة، ومفهوم الحب العفيف كما تغنت به في نصوصها. ولذلك اخترتُ أن أغامر بعقد مقاربة في هذه المقالة بين نصوص الشاعرة غدير حدادين ونصوص شاعرة ليبية غايتتي من ذلك استعراض بعض ملامح النص الشعري الذي تكتبه المرأة العربية أينما وجدت والتأكيد على مضامينه المشتركة.
وكما أشرت فقد كان للمكان المتمثل في المدينة حضورٌ بارزٌ في ديوان شاعرتنا غدير حدادين وهي لا تمثل بهذا الإنشغال استثناءً في أغراض الشعر، حيث استأثرت الكثير من المدن والعواصم العربية باهتمام العديد من الشعراء بكل ما فيها من أمكنة وشخصيات ومحطات تاريخية زاخرة بالأمجاد والبطولات، أو مآسي الحروب والمعاناة والأزمات بشتى أصنافها. ولا شك فإن المدينة في النص الشعري تمثل رمزَ الهوية، واستنطاقَ التاريخ وشهادةً على الأحداث، وتأكيدَ سطوة الأمكنة واستمرارِ تأثيرِها وحضورهِا في الوجدان الإنساني، وكذلك اجترار الذكريات الخاصة، أو غيرها من الصور التي تتفاعل في الذهن وتتحول إلى محركٍ إبداعي، ومبعثِ إحساسٍ شعري بعوالمها ومكوناتها، ومن ثم تتجلى انعكاساتها تعبيرياً في النص الشعري.
وتأسيساً على هذا نسجت شاعرتنا غدير حدادين أضمومة (أربع فراشات لعمان) عبّرت فيها عن مشاعرها تجاه مدينتها “عَمَّانُ” عاصمة وطنها الأردن الحبيب فجاءت عناوينها متتالية: (جلّنارةُ الأبد) و(لأنَّكِ ظلي) و(نافذةٌ مفتوحةٌ على سُكوني) وسجلتها في عدة قصائد تبرز عشقها الكبير لها، ومدايات أحلامها لمستقبلها المأمول.
ومن نصوص الأضمومة نكتشف أن عمان بالنسبة للشاعرة ليست مجرد رمزٍ ماديٍ تؤثته الطرق والشوارع والمباني والشخوص المتنوعة، بل إضافة إلى ذلك كله، فهي تحتضن ما تعتمره النفس البشرية أو يجول بالخاطر الإنساني من أحاسيس ومشاعر، ونبضات محطات مشاوير العمر من صرخة الميلاد وحتى اكتمال الذات روحاً وفكراً:
(عَمَّانْ
يا كلَّ الذي في خاطري
يا محطاتِ اكتمالي)(3)
وليس هذا فحسب، بل تمضي شاعرتنا في اعتبار المكان المتمثل في عمان/المدينة بصمة هوية لظلِّ الإنسانِ جسداً وخيالاً وكياناً لا يفارق شموس الصباحات والمساءات كلها، ومنارات عطور ورياحين الورود التي يهتدي بها في هدأة الليالي المنبعثة من أضواء أقمارها البهية:
(عَمَّانُ لأنّكِ ظلِّي،
عطرُ الوردِ دليلي ..
قمرُ الليلةِ غيرُ بعيدْ!)(4)
وتزداد متانة وروابط وتقاطعات العلاقة البينية والعمودية بين الشاعرة وعمان المكان/المدينة حين تعتبرها هي البدايات والنهايات التي تتداخل فيها دروب الهوى ومواجع الشجن في فضاء يكون وطناً يتجاوز مداه الحسي والمادي، وهذا بلا شك يعد أقصى مراحل العشق وأحلاها:
(عَمَّانُ
نافذةٌ مفتوحةٌ على سُكُونِي ..
لاَ تسألوني،
عنْ بداياتِ الهَوى،
عنْ نهاياتِ الشجنْ..
عَمَّانُ أكثرُ مِنْ وَطَنْ!)(5)
ونلاحظ في النصوص الثلاثة لشاعرتنا غدير حدادين أن اسم المدينة (عمان) يظهر صريحاً وجلياً بارزاً سواء منذ استهلال النص أو في متنه أو نهايته ليعكس حالة الزهو والافتخار والتغني بالمكان/المدينة كهوية وتاريخ وهيكل متجذر متكامل، يتفاعل في أعماق الذات الشاعرة، حتى وإن غاب تضمين اسم ذاك المكان في عتبات النصوص الثلاثة، على عكس الشاعرة فوزية شلابي التي صرّح نصّها باسم المكان/المدينة مباشرة منذ عنوان قصيدتها (أول طرابلس .. آخر طرابلس) في مناجاتها لمدينة (طرابلس) عاصمة بلدها ليبيا، ثم تكرر ظهور الاسم في ثنايا النص:
(مِنْ هُنَا أولُ طرابلسْ
آخِرُ طرابلسْ.
أُسَمِّيكِ للِظَفِيرةِ المُهْمَلة
للقنديلِ المُرتبك
لتِلاوةِ السِّر
للِشغبِ
للِجدارْ
للِجريدِ المدلُوقِ من دكنةِ اللَّيلِ إلِى سَقْسَقَةِ المَاء
للِدمِ الاستوائِي
الفقير
الراديكالي
يناوشُ. يستدْعِي. يتنادَى.
مِنْ هُنَا سِدرَةُ المُنْتَهَى
بُرَاقُ البِلاد.
فرفقاً بالبنتِ يا نَخْلة)(6)
وإن كان ذلك من الناحية الشكلية الفنية لتأثيت المدخل والإطار العام للنص، فإنه على صعيد المضمون الشعري يمكننا القول بأن هناك توافقاً كبيراً يسجل في نصوص الشاعرتين يتمثل في الصورة التعبيرية المشتركة التي تتخذ من المدينة فكرة للاعتزاز ورمزاً للتعبير عن الحب للوطن الكبير، بإستنطاق وإبراز جماليات أمكنتها وحضورها الباذخ في قلبيهما وعقليهما، واطلاق كل وشائج علاقاتهما عبر استذكار مواقف وأحداث وأزمنة وشخصيات وشرائح اجتماعية ذات دلالات قريبة وبعيدة تجسد بانوراما شعرية أساسها ورسالتها عشق المكان/المدينة والتغني بها شعرياً.
ولا يختلف هذا الإحساس المشترك لدى الشاعرتين كثيراً حين تخطت كل منهما الجغرافية العربية القطرية الضيقة واتجهت صوب مدينة “بيروت” العاصمة اللبنانية الساحرة للبوح لها عن مشاعرهما التي تفيض تجاهها محبة وإعجاباً، فصاغت كل شاعرة نصها بشكل متقارب وجدانياً، رغم التباعد الزمني بين النصين، فنجد الشاعرة غدير حدادين تعانق بيروت في نصها (اعترافٌ طوعي لبيروت) وتخاطبها في أربعة مقاطع قصيرة بصوت الذات الشاعرة المعبر عنها بضمير المتكلم (أنا يا بيروتُ) الذي تكرر ثلاثة مرات في كامل النص، أثناء بوحها والتعريف بنفسها وعرض صفاتها. وقد ظلت شاعرتنا محتفظة بمباغثة ومفاجأة القاريء حتى نهاية النص حين تغير أسلوب الخطاب (وإنتِ يا بيروتُ) للتعريف بالمكان/ المدينة بالثناء عليه ووالإشادة به على النحو التالي:
(أنا يا بيروت
أبذرُ دُموعي صلاةً
عند مذبحِ العشاقْ
وسؤالاً يؤرقُ الغروبْ!
***
وأنتِ يا بيروتُ
مَركبٌ محمّلٌ بالأمنياتِ
لاَ يخافُ العاصفةْ!)(7)
بينما صدحت الشاعرة الليبية فوزية شلابي بعشقها لبيروت في نصها الثمانيني المعنون (لبيروت صورةٌ قديمةٌ واحتمالاتٌ جديدة) بدفقة شعرية واحدة متواصلة ومتتابعة وهي تقول:
(هذا خيطٌ أولٌ للصباحْ
هُناك. احتِمالٌ مَا عنْ مطرٍ
يأتي،
عنْ أسئلةٍ تعتذرْ
لِلموْعدِ المُناسِب،
عَنْ كَلامٍ لاَ يُشبِهُ
الكَلامْ،
عَنْ عناصرَ لاَ تتأكسدْ
لا تفسدْ.
عنها تقول:
وَاصِلْ
انبعاثَكَ
أيُّهَا
الغد.)(8)
وعند مقاربة النصين نجد أن المكان المتمثل في مدينة “بيروت” العربية اللبنانية شكل محرك إلهام لشاعرتين في بلدين عربين شقيقين هما ليبيا والأردن، وحتى وإن تناولت كل شاعرة منهما جانباً مختلفاً أو زاوية مغايرة، خلال فارق زمني بين النصين الشعريين يتجاوز الثلاثين سنة، واختلاف السياسات والتطورات والظروف العربية العامة، والخاصة بمدينة “بيروت” أثناء ولادة النصين الشعريين، فإن هذا الاهتمام المشترك يؤكد وحدة المشاعر الأخوية العربية وكذلك يحدد ملامح وتنبؤات مؤشر بوصلة العقل العربي واتجاهاته المستقبلية. فالشاعرة غدير حدادين اختتمت نصها بروح حالمة متعززة بالأمل المتأسس على صلابة وقوة “بيروت” المركب/ الوطن/ المدينة التي لا تهاب العواصف، ولا تخشى الأعاصير والمعارك، والقادرة على تحديها بالأمنيات الفاعلة والطموحات العملية. وبنفس الروح المشابهة اختتمت الشاعرة الليبية فوزية شلابي نصها بطاقات حالمة تدفع خطابها الشعري نحو “الغد” والمستقبل بكل الثقة المستمدة من الماضي التاريخي العبق للمكان/ المدينة/ الوطن والمنطلقة بذات الانبعاث المتوهج من قبساته الخالدة.
إن هذه المقارنة المتواضعة لبعض نصوص شاعرتنا الأردنية غدير حدادين مع الشاعرة الليبية فوزية شلابي تبرز عدة جوانب في شعر المرأة العربية لعل أهمها التأكيد على الروح المشتركة لدى الشاعرات العربيات في الأحاسيس والغايات والأهداف النبيلة، وإن ظلت الأشكال والأساليب الفنية التعبيرية متفاوتة كل حسب بيئتها وتنشئتها الفكرية وظروف بلدها الخاصة، ولكن المسيرة الشعرية للمرأة العربية المبدعة متواصلة ومتناغمة على امتداد الوطن العربي، وهي تتلاقى في العديد من التوجهات والعناصر الفنية، وتقدم الشعر الحداثوي كشاهد وجداني ومادي ملموس على مشاعرها الإنسانية والعربية المرتبطة بالانشغالات المشتركة، والتي ظلت معانقتها للمدينة كنموذج لأحد أبرز موضوعاتها التي جعلتنا نذهب بعيداً لمحاولة استكشاف العلاقة القائمة بين المدينة كمكان والنص الابداعي عند المرأة الشاعرة في بلد عربي شقيق آخر هو ليبيا
حمل ديوان (سأكتفي بعينيكَ قمحاً للطريق) للشاعرة غدير حدادين في خاتمته فصلاً بعنوان (غيماتٌ عابرة) تضمن خمسين نصاً قصيراً مكثفاً أولها (لا تعلمني لغة المطر، سأكتفي منك بحرفين وزهرة) وآخرها (لمحتُها .. كانت ترقصُ بانسجامٍ كبير، تلك الأضواء الهاربةُ من قيد المصباح!) أبانت فيها الشاعرة مقدرة فنية تتقارب كثيراً مع تقنيات جنس القصة القصيرة جداً أو الأقصوصة، وتقف على الحد الفاصل لشعر الومضة “الهايكو”. جاءت هذه الغيمات حبلى بالفكرة المباغثة الضاجة بقوة اختراقها لوجدان المتلقي وتحريك عقله نحو جمالياتها المطرزة بروح تعشق الكون وتسمو بالإنسان نحو العلا.
إن شاعرتنا غدير حدادين كانت في ديوانها الثالث (سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق) مدينة مكتظة بالبهاء الشعري الذي تعزز بتنوع موضوعه وشكله الفني وموسيقاه المتناغمة مع مفرداته النثرية والشعرية فاستطاعت بها الشاعرة أن توطن نصها في المدونة الإبداعية وكذلك في القلوب العاشقة للإنسان والوطن في كل الأرجاء.
__________________________
(1) سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق (شعر)، غدير حدادين، الآن ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2017
(2) في القصيدة التالية أحبك بصعوبة، فوزية شلابي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 1984
(3) سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق، ص 65
(4) المصدر السابق، ص 67
(5) المصدر السابق، ص 69
(6) في القصيدة التالية أحبك بصعوبة، ص 45-48
(7) سأكتفي بحبك قمحاً للطريق، ص 61-62
(8) في القصيدة التالية أحبك بصعوبة، ص 39-41