من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي
المقالة

مناقشات خيالية … دِماءٌ على أربعةِ شواطئ

من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي

 

كانت الشمسُ قد غَرَبَت تماماً واختفى الشَّفَقُ الأحمر الباهِت الذي كان مُنعكساً على زجاج نوافذ القاعة ومازالت النوافذ مفتوحة لكنَّ النجوم لم تظهر بعد في الفضاء الشاحب، وظَلَّت كوكبة علماء العالم حول طاولة الاجتماعات في بيت مُضَيِّفِهُمْ العالم الألماني “بُولْ غُوتِه” أستاذ التاريخ الإنساني العام الذي قال :

إنَّ جو “برلين” يميل دائماً إلى البرودة .
فَعَقَّبَت الدكتورة ” إنْجِي شَبْرِيسْ” قائلة :

مُعظم العلماء الحاضَرين إعتاد جَوَ حوضِ البحر الأبيض المُتَوَسِّط. وتعرفون أنَّ طَقْسَ مَصر معتدلٌ جداً في كل ّ الفصول وبالذّات ” حِلْوان” حَيْثُ مَسْكَنِي أو عملي في المرصد، ولا أظنُ أنَّ السَّادَة العلماء الذين اعتادوا مناخ حوض البحر الأبيض المتوسط يشعرون بالبرودة الآن رغم اعتيادهم للجَوِ المُعتدل في بُلْدانِهُمْ .
وكانت السماء تزداد شُحُوباً وراء النوافذ المفتوحة.

قال الدكتور اليوناني “دِيمِتْرِيوسْ هارْماخيسْ” بِتَذَمُّرٍ خفيف وهو ينظر نحو النوافذ المفتوحة :

المسألة – في نظري – ليست البرودة فأنا لا أشعرُ بها ، لَكِنِّي لا أَطِيقُ وَقْتَ الغروب فهو مائع لا هو لَيْل ولا هو نَهار، ولا أعرفُ لماذا يَنْتابُنِي هذا الإحساس !
فصاح العالم ” أُوْدِنْ” قائلاً:

دكتور دِيِمتْرِيُوسْ ، ربما إحساسُكَ الذي ذَكَرْته يَعُودُ إلى المَعْنَى الوحيد لغروب الشمس وهو رَحِيل يومٍ مِنْ أيام العمر ..
فقاطعته ” إنْجِي شَبْرِيسْ ” تقول :

هذا شِعْر يا دكتور ” أُودِنْ” ولا يَنْقُصُهُ لإتْمامِ هذه الصِّفَة سِوَى الوزن. وقولك برحيلِ يومٍ من العمر يُذَكِّرُنِي بقصيدة لعمر الخَيَّام الشاعر والفَلَكي الفارِسِي المقروء في أوروبّا والعالم بأَسْرِه.
أجابَ ” أُودِنْ” على رأي الدكتورة ” إنْجِي ” قائلاً :

أردتُ فقط تفسيرَ أو تحليلَ إحساس الدكتور دِيِمتْرِيُوسْ . وأنا أحفظ الكثير من قصائد الشاعر الفارِسِي، وقد أكون مُتَأثِّراً به في تحليلي السابق .
فَعَادَ الدكتور ” دِيِمتْرِيُوسْ هارْماخِيسْ” يقول وصوته يَسْرِي فيه التَّذَمُّر الخفيف الذي بَدَأ به :

لا أَرَى في تحليل العالم ” أُودِنْ” شعراء مِنْ أيّ بلد ، وقد تكون المسألة مُجَرَّد تشابه في الرأي . أمّا الدكتورة ” شَبْرِيسْ” فهي فَلَكِيَّة مَرْمُوقَة واهتمامها بالخيّام له مَدْخَل فَلَكِي أَوْسَع مِنَ المَدْخَل الأدبي .
عندئذٍ قال العالم ” كُنُوْدْ” بنبرات جَهِيرَة وبطء:

وأنا بِدَوْرِي أَرَى ما يراه الدكتور ” هارْماخِيسْ” لأنَّ العالم ” أُودِنْ” لم يَقُلْ شِعْراً ولم يأتِ في تحليله بأيّ قصائد .!.
فقال العالم الألماني ” بُولْ غُوتِه” بصوتٍ مرتفع مُخاطِباً جميع العلماء الجالسينَ حول الطَّاولَة بعدما ارتشف قهوته وطَلَبَ المَزِيد:

في الواقع إنَّ السّادَة العلماء الحاضرين جاؤوا لمهامٍ علميَّة نعرفها جميعاً وذلك للفائدة العَمِيمَة الناتجة عن مناقشاتهم وتقليبهم للمسائل العلمية على مختلف وجوهها وإبداءُ الآراءِ حولها، ولم يأتِ أحدٌ منهم لغرض المطارحة الشعرية أو نَقْدِ قصائدَ معيَّنة أو مَدْحَها، وليس ذلك لأنَّنا نَتَّخِذُ مَوقِفاً رافضاً للشعر فهذا مستحيل، فنحن بصورةٍ عامّة نَقْرأُ الشِّعرَ بلغاتنا الوطنيَّة أو بأيّ لُغَةٍ أخرى ونتذوَّقُ جماليات تعابيره، لكنْ أين ؟! بَدِيهِي أنَّ ذلك حَسْبَ الأوقات المُتَبَقِّيَة مِنَ الوقت الأساسي المُكْتَظ بالأعباء العلميَّة حَيْثُ نُطالِع في تلك الأوقات ما شئنا من دواوين الشِّعر في البيت أو النادي أو الحديقة العامَّة أو صيفاً عِنْدَ شاطئ البحر تحت المَظَلَّة.
وأَظِنُ أنَّ ما أقوله صحيح، فوقتكم ثمين . وقد يكون من اللازم الإشارة إلى أَنَّكُمْ اليوم مُنْذُ الصباح وأنتم حول هذه الطاوِلَة ولم تذهبوا للراحة المؤقَّتَة في الظهيرة. فهل توافقونني على كلّ ما قُلت ؟

فأجابَهُ جميع العلماء الموجودين في القاعة حَيْثُ صالَة البيت والطاوِلَة المُزْدَحِمَة بالأوراق وفناجين القهوة وهم يُحَرِّكُونَ رؤوسَهُمْ بعلامةِ الإيجاب ويقولون :

هذا سَلِيمٌ جداً .
بَيْدَ أنَّ الدكتور ” هارْماخِيسْ” رَغْمَ أنَّه أَطْرَقَ برأسِه علامة للموافقة لكنَّه كان مُهْتَماً أكثر بالنوافذ المفتوحة يُحَمْلِقُ صَوْبَها قائلاً:

في اليونان ..في بِيْتي أَصْحُو أحياناً في الفجر على أصوات العصافير الذي كان يَصِلُ إلى سَمْعِي وَاضِحاً بالرغم من النوافذ المُغْلَقَة. و أَظَلُّ في فِراشِي أَسْتَمِعُ تلك الأصوات الجميلة، وغالباً كنتُ أعود إلى النوم ، وفي مراتٍ أخرى قليلة أَنْهَض مُغادِراً السَّرِير فَأَفتَحُ النافذة و أنا أفكِّرُ في تلك الطِّيور الصغيرة السعيدة بالنور . إنَّها لا تُطْلِقُ نَفْسَ الأصوات التي تُصْدِرُها وقتَ الغروب. كان الاختلاف الصَّوْتِي شديد الوضوح في ذِهْنِي، ويبدو هذا الاختلاف مِثْلَ الفارق بين الفجر والغروب، فالغروب مائع ضَوْئِي لا يُطاق ، والفجر بداية نَهارٍ جديد ويومٍ جديد.
ثُمَ أَتَمَّ الدكتور “ديمتْرِيُوسْ” ارتشاف قهوته واستطرد حديثه قائلاً :

إنَّ الفجر بداية والغروب نهاية. وأنا لا أَتَطَيَّرُ أو أَتَشاءمُ من الأوقات فالأعمار والأرواح من شأن الخالِق.
وأشار الدكتور “دِيمِتْرِيُوسْ هارْماخِيسْ” بيديه كَمَنْ يَصُدُّ شيئاً وهو ينظر بضيقٍ شديد إلى النوافذ المفتوحة ثم قال :

إنَّني لا أَسْتَطِيعُ احتمال الضَّوْء الرَمادِي الباهِت، فالشُحُوبُ فقط دُونَ سِواه مِنَ المعاني هو ما يثيرُ في نَفْسِي القَلَق والنفور فأرجوكم إغْلاقَ هذه النَّوافِذ.
فابتسم الألماني وكأنَّه يُطَمْئن الدكتور ” دِيمِتْريُوسْ” وقبل أنْ يُنادِي الشَّغالات لِيُغْلِقْنَ النوافذ تَسارَعْنَ -وهُنَّ زِنجيّات بِكامِلِهُنَّ- لإغلاق النوافذ ثم ذَهَبْنَ لإحضار مَزِيدٍ مِنَ القهوة لِكلّ الحاضرين.

وفي هذه الأثناء كان العالم الألماني ” بُولْ غُوتِه” يَتَفَرَّسُ في وجهِ الدكتور “دِيمِتْرِيُوسْ” الذي لاحَ مُرتاحاً مُنْشَرِحَ الأَسارِير، ولم يلبثْ “غُوتِه” أنْ قال:

قبل أنْ يُرْخِي الليلُ سُدُولَه السَّوْداء وقَبْلَ أنْ تذهبوا للنوم والراحة أَوَدُّ أنْ تسمحوا لي بالقَوْل فَثَمّةَ مُتَّسَع مِنَ الوقت وسيكون حديثي مختصراً ..
ثم أردفَ العالم “غُوتِه” قائلاً :

لقد تحدَّثْتُ نهار اليوم عن الرايخِسْتاغ الهِتْلَرِي والحرب العالمية الثانية بإيجاز وسأتحدُّثُ الآن بإيجاز أكثر عن الفاشية وموسوليني والحرب العالمية الثانية. وفي الأيام المُقْبِلَة سأتحدَّثُ عن المستعمرين اليابانيين باعتبارِهُمْ ثالث أضلاع ما سُمِّيَ بالمِحْوَر. أمّا موسوليني فإنِّي أطْرَحُ عليكم هذه الملاحظة وخلاصتها أنَّ ذلك الفاشي سَرَقَ نتائجَ المناقشات التي دارت في إيطاليا قَبْلَهُ وهي اعتبار الشاطئ الليبي تابِعاً مُنْذُ تأسِيسِ الإمبراطورية الرُّومانيَّة، وبذلك سالت الدماء على شواطئ إيطاليا الثلاثة وعلى الشاطئ الليبي المحسوب كشاطئ رابع. وفي آخر المَطاف قامَ الشعب الإيطالي بإعدام موسوليني وعلَّقُوهُ بالمقلوب في إحدى مَحَطَّات الوقود.
وتَوَقَّف “غُوتِه” عِنَدَ هذا الحَدّ مِنَ الحَدِيث فانصرف الحاضرون للنوم والراحة.

______________

نشر بموقع الأيام

مقالات ذات علاقة

أبو سفـيان بيـته ليـس آمن

محمد المغبوب

ناقة (صالح)

سعد الأريل

مُـحَـاكَـمَـةُ الـمُـثَـقّـف

المشرف العام

اترك تعليق