يظلّ المكان يسكننا ويحفر عميقا في نفوسنا كّما بعدنا عنه، أو كلّما رجعت بنا الذكرى لتذكر عزيز فقداه، أو حبيب رنّت في أسماعنا كلماته. ذلك المكان الذي يتمثل لنا في البيت العائلي الكبير، وتلك القرية التي تحتوي مجموعة من سكانها الذين ربطت بينهم صلة المحة والجيرة والعشرة الطيبة، أو ذلك الرّيف المترامي الأطراف بكل ما فيه من بشر ومن كائنات، ومن طبيعة ساحرة ودودة لساكنيها، هي هذا المكان استنشقنا فيه أوّل نسمة هواء كي تمتدّ بنا رحلة الحياة. هوذا طفل الرّيف الوفيّ للمكان الكاتب والمبدع والإعلامي “محمد” يسكنه حبا وألما وتمتزج فيه الصورة، وهو يكتب عن عين الدفلى، وعن ما تحتويه من قرى ومواسم أفراح ومأتم فهو لا يكتب استعراضا للمكان بقدر ما يكتب صونا لروح ووجه الذكرى حينما يخصص عمله القصصي “بيوت الطين” ذلك العنوان الذي يتقارب فيه مع عنوان” تبكي بيوت الطين” للفنان محمد المغيرة. هي قصيدة شعرية تقول كلماتها، باللهجة السعودية:
– الوقت ما قصر لكن صار تالي يجيها/ ويهديها من باب التفضّل والتّبلي/ وردة لمن هو يعشق الماضي/ وله ذكرى يبيها/ ووردة لمن هو ينظر المستقبل بعين الفطين/الأولين أفضالهم في أرضنا ما نعتليها/ تأسيسا من وين لولا الله تمّ الأولين/ لكن هذا وقتنا وأيامنا نحتار فيها/ ما هزمنا ولا بكرة الواقع يشين…”
فكتابات محمد عن بيوت الطين التي يذكر فيها كل تفاصيل المكان والزمن والإنسان، هي سيرة ذاتية طفولية يستوي فيها السرد بالفرح والألم ،وقد عبّر صادقا حينما قال بيوت الطوب، ولم يقول بيوت الحجارة، فبيت الطوب هو بيت الناس الطيبين الأكثر ودّا رغم شديد الفقر والحرمان وبيت اكثر دفء في ذلك المجتمع البسيط من الناس، وهم يشهدون على معاناتهم الطويلة مع الاستعمار والألم المتواصل مع صراع الحياة، سيرة ذاتية يريدها الكاتب محمد دحو لعين الدفلى المدينة التي كانت في وقت سابق تابعة لولاية الأصنام “الشلف” لتتوسّع في مخيّلة الكاتب لتشمل كلّ مدن وقرى وصحراء الجزائر، فالمعاناة واحدة، والحنين ذاته حين نجد الكاتب يتذكر كلّ تلك القرى ،ويتذكر الفلاحين والعمال والبنائين ،ويتذكر السوق الأسبوعية أو سوق الجمعة، والطاحونة، ويتذكر صاحبها عمي أحمد، دون أن يغفل التاريخ في ذكره للقايد والبغلة المباركة، والقايد ابراهيم يشعر بالزهو والتفاخر حين يقبّل البسطاء يده وقدمه، كما يشعر بذلك حينما يقبل العامة رأس بغلته المباركة على حدّ قول الكاتب…
ويواصل سرده في الاتجاه ذاته حين يتناول قصة النهر الحزين الذي هو نهر الشلف الذي ينبع من جبال العمور بولاية الأغواط جنوب الجزائر لينحدر إلى الشمال الغربي من الجزائر العاصمة وبالتحديد الى ولاية مستغانم وأيضا هو أطول واد في البلاد والأكثر تدفقا. هذا النهر الذي يضفي على مدينة عين الدفلى سحرا وجمالا ويدرّ على ساكنيها خيرا ومصدرا فلاحي كبير، ولذا نجد الكاتب يستعيد مع النهر حكايات الطفولة والسباحة أيام الحرّ وتذكر كلّ الوافدين عليه من الصيادين والفلاحين والرّعاة، وفي قصة النهر الحزين استرجاع للحزن الأبدي حينما كان الكاتب ومجموعة من أصدقاء الطفولة، وهم يتسللون من الإعدادية الداخلية الى النهر من أجل السباحة ذات يوم حزين فيغرق صديقهم في النهر لعدم خبرته بالسباحة، هو لم يذكر اسم مجاهد فرّاح الطفل ولكنه ظلّ يقصده بهذه القصة الحزينة.
وتظل مجموعة ” بيوت الطوب” توغل في عمق المكان لتنسي الكاتب غربته خارج الوطن، ويظل الوطن يكبر داخل نفسية الكاتب محمد دحو وهو يتعمّد السر والحكي المتواصل، دون التوقّف عند فاصلة من فواصل الحوار القصصي كما هو الحال عند الكثير من كتّاب القصة القصيرة والرّواية.