مايا الحاج | لبنان
فجأةً احتلّت صوره صفحات الأصدقاء. هل فاز بجائزة عالمية مهمة؟ عادةً لا تخرج الأخبار الثقافية في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل. لعلّه احتفاء به في يوم الترجمة العالمي باعتباره مُترجماً الى لغاتٍ أجنبية كثيرة.
لكنّ الكلمات لا توحى بأيّ نوعٍ من الاحتفالات. كلماتٌ موجزة، حائرة، مصعوقة.
خالد خليفة مات يا أصدقاء.
صعبٌ أن تستوعب سريعاً غرض الجملة هنا. هل هي جملة خبرية؟ استفهامية؟ استنكارية؟…
ربما هي الثلاثة معاً.
وقع الصدمة كبيرٌ بحجم الكاتب الراحل. علاوة على مكانته الروائية (بين قرّائه)، ومكانته الانسانية (بين أصدقائه)، خالد خليفة مازال كاتباً ناشطاً في صداقاته وكتاباته وتعليقاته.
والمفارقة أنّ هذا الرحيل السريع، العاجل، والمباغت بدا سهلاً عليه، بما يُخالف عنوان روايته الشهيرة “الموت عمل شاق” (تُرجمت الى 17 لغة ووصلت الى القائمة النهائية لجوائز الكتب الوطنية في الولايات المتحدة). غير أنّ خبر موته هو الذي بدا “شاقاً” على قلوب أحبائه وأصدقائه وقرّائه.
فجاءت معظم التعليقات موصولة بكثيرٍ من علامات التعجب والاستفهام. معقول؟ هل الخبر صحيح؟ أليست هذه مزحة من مزحاتك يا خالد؟
بداية المسار
الكتابة في حياة خالد خليفة ( 1964) كانت خياره الأول. وهذا ما لم يُعجب دائرته التي خوّفته من هذا العمل المُرهق والمُفلِس والخطير.
فالكاتب في عالمنا يمشي في طريقٍ غير واضحة المعالم. قد يقوده قلمه الى عتمات السجن أو ظُلُمات الفقر. لكنّ إصراره على الكتابة جعله يُكمل في تنفيذ مشروعه الأول. درس الحقوق (تخرّج في 1988) وهو يُدرك في قرارة نفسه أنه لن يُمارسها مهنةً لأنه لا يُريد أن يكون سوى كاتب.
ولا شكّ أن رغبته القوية في الكتابة نشأت جرّاء انفتاحه المبكر على القراءة، وهي التي كانت في وقتٍ من الأوقات متنفّساً للشباب العربي المقموع اجتماعياً ونفسياً وسياسياً.
في العام 1993 نشر روايته الاولى “حارس الخديعة”، ثم “دفاتر القرباط”. وكتب للتلفزيون مسلسلات مثل “قوس قزح” و”سيرة آل الجلالي”.
لكنّ “مديح الكراهية” (2006) حققت النقلة النوعية في حياة خالد خليفة الروائية. استعاد فيها الحرب التي دارت بين النظام السوري والاخوان المسلمين في حماة. ووصلت الى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية/ البوكر (2008).
نافس حينها أسماء أدبية مكرّسة مثل المصري بهاء طاهر (الذي فاز بالجائزة)، وكان سعيداً بأنّ الكتابة بدأت تُخلِص له كما أخلص لها طويلاً.
تُرجمت الرواية الى لغات كثيرة منها الفرنسية والانكليزية والايطالية والاسبانية وغيرها… ومذاك صار خالد خليفة واحداً من أهم وأشهر الكتّاب العرب.
البيئة السورية
أعمال خالد خليفة هي ابنة بيئتها. تخرج من عمق المكان كجوهرةٍ خام، تحمل أسرار الصخور التي احتضنتها. نقول الصخور وليس الأرض لأنّ المكان في روايات خليفة ليس تربةً طينية ناعمة وهشة، بل صخر تغلب عليه صفات البطش والقسوة والخشونة.
هذا الحفر العميق في طبيعة المكان السوري بأبعاده السوسيو-بوليتيكية لم يكن ممكناً من دون جرأة خالد خليفة. ولهذا، واجهت كتاباته تهديد الرقيب، فتعرضت أعماله لتضييقات كما مُنعت روايته “مديح الكراهية” في سوريا قبل أن تصدر بطبعة بيروتية في 2008.
وفي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، اختار خالد خليفة أن ينشر روايته عن دار العين القاهرية وعن دار الآداب البيروتية، وفاز عنها بجائزة نجيب محفوظ. وهذا ما جعله كاتباً مقرّباً من المصريين، ولعلّ تعليقات الروائيين والصحافيين المصريين على خبر وفاته يكشف مكانته في مصر.
موت غير طبيعي
“الموت عمل شاق” هي الرواية التي خرجت من رحم الثورة السورية، بأوجاعها وصراعاتها. كتبها بعد نوبةٍ قلبية أدخلته الى المستشفى. وهناك تخيّل مصير الجسد بعد موته في أرضٍ لم تعد تتسّع للجثث.
حملت هذه الرواية موقف خليفة من الحرب التي تنتهك حقّ الإنسان في الموت “الطبيعي” كما في الحياة “الطبيعية”. وهذا ما يتبدّى من خلال قصة صراع عائلي حول جثة يجب دفنها في منطقة حرب.
تُرجمت “الموت عمل شاق” الى 17 لغة، وفازت ترجمتها الانكليزية بأفضل عمل مترجم في بانيبال، ووصلت الى نهائيات “ناشيونال بوك آوورد” في الولايات المتحدة، كما وصفه اليوت اكيرمان في صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه “خليفة فوكنر”.
وفي أحد لقاءاته، يقول خليفة إنّ هذا العمل هو عمل محظوظ بكمّ الترجمات والجوائز، ثم يكمل بابتسامة ساخرة: “وحدها الجوائز العربية لم تعره أي اهتمام”.
بين الوثيقة التاريخية والخيال
“لم يُصلّ عليهم أحد” هي رواية خالد خليفة الأخيرة. أخذت منه 11 عاماً من الكتابة و19 مسودة. وهذا ما يكشف عن طبيعة خالد المتأنية في التعامل مع الكتابة.
وفيها عاد خليفة الى لحظة تاريخية فاصلة وعنيفة، وهي نهاية الامبراطورية العثمانية التي تولّدت منها أنظمة وكيانات واتفاقات وصراعات أدت في النهاية إلى “المأساة” العربية.
ورغم هذا البعد التاريخي الموجود في العمل، لا تعتبر الرواية عملا تاريخياً وإنما استعادة لجزء من التاريخ بغية مقاربته مع الواقع المعقد من أجل فهمٍ أعمق له.
وكان خالد خليفة نفسه يرى أن هذه الرواية تُمثّل عملاً معاصراً أكثر منه تاريخياً، وهو المنحاز الى الخيال أكثر من الوثائق ومن التأريخ.
خالد خليفة كان يزور عواصم العالم من دون أن تغريه أيّ منها للاقامة فيها. كان قادرا على الحصول على تأشيرات العالم، لكنه ظلّ حيث هو، من دون همّ إن كان سيموت أم يعيش.
رغم بشاعة الحرب وقسوتها، اختار البقاء في دمشق في أصعب اللحظات لكي “يأخذ حصّته من العار”، كما قال أحد أبطاله في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”. أراد أن يأخذ حصته من ألم بلاده وشعبه، أن يعيش المأساة بدلا من أن يسمع عنه.
البقاء كان قراراً صادماً، لكنّ خليفة لم يصفه بالقرار الشجاع، وإنما اعتبره مجرد قرار شخصي ناتج عن “جبن” الانفصال والخوف منه. فلا مدينة تُعادل دمشق ولا مكانا
ورغم خطورة ذاك القرار، حوّل خليفة مشاعر الألم الى أدب حقيقي وصارخ، ما كان يمكن أن يكون بهذه الحرارة لو لم يختبر هذه المأساة.
وإذا أردنا تأمّل هذا الاستسلام للموت، أو لنقل الجهوزية له، فلأنّ خالد خليفة ةهب حياته كلها، منذ مطلع الصبا، للكتابة، الشيء الأحبّ الى قلبه. وهذا ما كان يردده دوما: أنا عشتُ حياتي داخل الكتابة. فعلتُ ما أحبّ، وكتبتُ الروايات التي أحبها.
“الكتابة عمل رهيب”، كان خالد خليفة. وليست رهبته نابعة من الكتابة نفسها وإنما من نشر الكتاب. وكان خالد خليفة يُقرّ بأنّ الكتابة هي حياته. هو بطبعه ملول من أيّ شيء الا من الكتابة. ولهذا فإنّ السؤال الدائم والمُرهق يولد عنده بعد الانتهاء من كتابة العمل: “ماذا أفعل الآن؟”.
هذه المرّة، لن يسأل خالد خليفة نفسه هذا السؤال. رحل وسيترك القرّاء يُعيدون اكتشافه من جديد. ويُعيدون اكتشاف جزء من الواقع السوري كما قدّمه في رواياته.
النهار العربي | 01-10-2023