وردة الدم هذه المرة لها إسم جديد ,وإسمها (مذبحة ميدان أبوهريدة) ، مثلما كان لأختها الوردة الدموية الأولى إسم وحّد الدم الليبي وهو (مذبحة سجن بوسليم) . وإذا كان بوسليم وسجنه علامة قاتمة وسّم بها الطاغية القذافي الذاكرة الإجتماعية في طرابلس وليبيا في عمومها . فإن شارع أبوهريدة وميدانه علامة مضيئة في الذاكرة الطرابلسية وذاكرة الليبيين الذين سكنوا طرابلس القلب الحنون والود الذي لايميّز بين ليبي وليبي .ففي بوهريدة أنشأ الليبي الخيّر محمّد الكريكشي دارا لرعاية أيتام ليبيا من حرّ ماله عندما لم يكن لدولة ليبيا مال . وفيها كان هناك مصنع للحلوى تأسس بالمال الليبي لطرد المرارة التي سكنت حلوق الليبيين أزمانا وسكنتها مجددا في أربعين سنون القهر العجاف ، ومصنع أخر كان صوت بوقه الذي يشمل الآنحاء يعرّفنا كل يوم بمنتصف النهار والراحة بعد الكدح .
وإذا كان الأسم السرّي لوردة الدم التي أندفقت في ساحة السجن الرهيب هرّب إلى بنغازي المدينة الصافعة لأحناك المستبدين ، فبذر مقاومة ، وأينع ثورة هدّت صرح الطاغية من أساسه وألقت به في قمامة التاريخ ، لتضرب موعدا لليبيين مع تاريخ الثورة الناصع المبهر . فإن أسم الوردة الدموية في ميدان أبوهريدة ، يجب أن يصبح علامة لمستقبل ليبيا المدني الديمقراطي ورمزا لطرابلس عاصمة الليبيين الذين سكنوها بشروطها قبل إنقلاب الـ . 1969 وحسب تقاليدها وإشتراطاتها ، فتعطّرت انفاسهم برائحة ياسمينها ،وأحترموا أذواق حب الحياة فيها.
وحتى لاتذهب دماء الليبيين التي سقطت من أجل مدنيّة طرابلس وتحضّرها بأسم ميدان أبوهريدة هدرا ، وتينع وتفور مثل مااينعت وفارت دماء شهداء سجن بوسليم في ميدان المحكمة في بنغازي لتوّحد ميادين البيضاء وطبرق وطرابلس والزاوية ومصراتة والزنتان ونالوت وكل ليبيا في ثورة عارمة أسمها ثورة السابع عشر من فبراير ،يجب أن يبدأ العمل الجّاد منذ اليوم في تتبيث الأسم الدموي لمذبحة ميدان أبوهريدة ،وإعطاء جسم مطالبة قانوني من أسر الضحايا لتحديد كل الآسماء المسؤولة ومن كل الآطراف عن وقوعها ، وإبراز فتحي تربل آخر بثوب محاماة له لون مختلف بإختلاف لون دم المذبحة ، حتى تبقى القضية حراكا مدنيا متحضّرا ،ومنتجا كمدنية حراك اسرّ ضحايا سجن أبوسليم ، ولكن هذه المرة بأسم مدنية طرابلس وتسامحها الثقافي والآعتقادي وديمقراطية ليبيا ووحدتها وصحة وعفاء ثورة السابع عشر من فبراير من سوس المنتهزين وتجار الدين والسياسة الذين أغلقت أمام أذهانهم وبصائرهم كل نوافذ التفتح والتحضّر .
وحتى لاتفهم هذه الدعوة فهما عنصريا او جهويا وتأخذ بعدا ليس في صالح وحدة ليبيا التي مهرتها في السابع عشر من فبراير دماء أبناء الوطن كلّه وعلى رأسهم أبناء مصراتة ، وحتى لاتجيّر لأهداف الذين يقرأون تاريخ ليبيا بالمعكوس ويدّقون عطر منشم إسفينا بين طرابلس وأختها الشقيقة مصراتة التي خلّدت أسم طرابلس في ملحمة حرب شوارعها المستميتة التي خاضتها ضد مرتزقة القذافي وكتائبه . تجّارها الذين بثّوا مع غيرهم روح المثابرة فنشّطوا قبل مجئ إنقلاب سبتمبر في الـ69 أسواقها وأضفوا بذكاءهم روحا مميّزا في كيانها : شيخ أدباء ليبيا على مصطفى المصراتي الذي أتى طرابلس مع رجل من الخمس هو الزعيم بشير السعداوي ليكونا معا من قلب طرابلس صوتا مدوّيا لوحدة ليبيا وأستقلالها ، عبد الله القويري المصراتي الذي اتى بعدهما ليّفكر بعقله ويصيغ بوجدانه معنى كيان ليبيا كلّها **،المعلّم د. عمر التومي الشيباني الذي علّم من طرابلس أبناء ليبيا كيف يمتزج العلم بالخلق الطيّب فيكون غرسا عفيا طيّبا ، د. علي فهمي خشيم الذي ترجم عبر مرافعة الخطيب (أبوليوس) ***روح وتحضّر (أوّياها) وكتب في ذكرياته ****أجمل الصفحات في حبّها وودّها .
إن الذين تجرأوا على الدماء دون أن يميّزوا هوية ضحاياهم من المتضاهرين المدنيين فأطلقوا الرصاص الأعمى من اوكارهم المشئومة في دارات غرغور التي كانت مرتعا لزبانية الطاغية وأبنائه قبل إنتصار ثورة السابع عشر من فبراير . إن جرأتهم الدموية تلك يجب أن ينظر فيها في ساحات القضاء ومصّحات العلاج النفسي ،وتعقد لها محاكمة الضمير وإن عقلاء مصراتة وأذكياءها وحكماءها ومشائخها الفضلاء من خلف شيخيها مصطفى التريكي وعبد الله رفيدة اللذين سكنا طرابلس واحبّاها ، يجب أن يكونوا في الموعد مع التاريخ ، ويأخدوا بزمام أبناءهم فيردعوا المجرم ، ويفثوا في عضد المظاهر عن عصبية مقيتة منثنة .
ونحن أبناء طرابلس الذين ولدنا فيها في عقود أربعينياتها وخمسينياتها وستينياتها من القرن العشريني ، سنعينها على تجاوز ذكرى عرسها الدامي ***** في جمعتها الحزينة المنصرمة في 15 نوفمبر 2013 مع رفقاء طفولتنا الجميلة التي عشناها فيها مع أبناء مصراتة وأبناء كل الليبيين الذين قدم آباءهم إلى طرابلس من كل أطراف ليبيا في زمن معايير وقوانين التعايش المجتمعي الراقي وليس في الأربعين سنة العجاف التي سرقت طرابلس من نفسها وسرق منها الأربعون حرامي خير ليبيا وخيرها ، ولن نتركها بعد أن تحرّرت منهم ، نهبا لأربعين حرامي جدد يحاولون سرقة روحها ربما لأربعين سنة أخرى .
_____________________________________
إشارات:
* تضمين لعنوان رواية أمبيرتو إيكو الشهيرة بأسم الوردة .
**إشارة للكرّاس الفكري الذي أصدره عبد الله القويري في الستينيات بأسم (معنى الكيان).
*** إشارة لمرافعة الخطيب أبوليوس المدوري في صبراتة في العهد الروماني .
**** إشارة للسيرة الذاتية لـ .د.علي فهمي خشيم بعنوان (هذا ما حدث) .
***** إشارة لدراما ( العرس الدامي) لشاعر أسبانيا الشهير فريدريكو غارسيا لوركا الذي قتل برصاص الفاشيين في أربعينيات القرن الماضي .