قراءات

نظرات في: معجم النفيس لـ خليفة التليسي

د. فوزي عمر الحداد

"النفيس من كنوز القواميس" للأديب الليبي الكبير خليفة التليسي
“النفيس من كنوز القواميس” للأديب الليبي الكبير خليفة التليسي

“هذا معجمي.. وهذا مجمعي.. وهذا كتاب العمر”

هذه العبارة قالها خليفة التليسي وهو يتحدث عن جهده في معجمه “النفيس من كنوز القواميس”، لقد أراد له أن يكون كتاب العمر، أن يكون خير ختام لحياة حافلة بالإنجازات.

ونسأل بدءاً، ما الدوافع والأسباب التي أدت لظهور التأليف المعجمي؟ وهل هي نفس الأسباب التي دعت التليسي لتأليفه معجمه النفيس هذا؟

أهم عامل دعا القدماء لجمع اللغة وتبويبها هو العناية بآيات الذكر الحكيم، وتفسير ألفاظه الغريبة ويشمل هذا الحديث الشريف. إضافة إلى تدوين اللغة العربية وحفظها وتيسير الرجوع إلى معاني مفرداتها.

فحفظ اللغة وصونها ودفع الأخطار عنها، من أهم العوامل التي تحكمت في تأليف المعاجم، وقد جعل ابن منظور صاحب (لسان العرب) من الأسباب التي حركته إلى تأليف معجمه، جهل الناس باللغة العربية وافتخارهم بمعرفة اللغات الأجنبية.

ويعلق التليسي على هذا السبب قائلاً:” ويبدو وبشكل حاد، أن هذه الأسباب ما تزال قائمة، بل إن الأخطار التي قد تهدد اللغة العربية قد تزايدت وتعاظمت، لا في الافتخار بمعرفة اللغات الأجنبية، بل في تكريس الدعوة إلى العامية، وهو ما تشهد به قنواتهم الفضائية التي أصبحت تشكل أقوى خطر على اللغة العربية”.

يقول التليسي إن قاعدته الأولى التي انطلق منها كانت “تاج العروس” أكبر معاجم اللغة العربية وأوسعها، وهو قد بدأ العمل على أساس تبويب معجم التاج تبويباً حديثاً لتعميق صلته الشخصية بالكتاب الذي يعد كما قلنا أكبر معاجم العربية.

لكنه أدرك بعد قطع شوط لا بأس به في عملية التبويب والتحديث، أن لا طائل كبيراً يكمن وراء هذه العملية المضنية، وأن الأجدى والأنفع والأفيد تخريج المادة اللغوية، وفصلها عن المواد الموسوعية التي حواها التاج، وأغلب هذه الاستطرادات يتعلق بتراجم الأعلام والتعريف بالمواقع والبلدان، فالعمل ينحصر، إذن، في استخلاص المتن اللغوي من الزوائد والإضافات، وتقديمه للقارئ الحديث في ثوب جديد يعتمد التهذيب.

والآن لنتعرف أولاً على ” تاج العروس”

مؤلفه محمد مرتضى الحسيني الزَّبيدي (المتوفى 1205 هـ الموافق 1790 م). وقد جعله أكبر معاجم العربية وأوسعها وأغزرها وأكثرها عناية وجمعاً واستقصاء للأعلام والبلدان والنبات والطب والأعجمي والمولد والمعرب والدخيل إلى غير ذلك.

فهو يعد، على تأخره، أكبر موسوعة عربية جامعة، تضم أنواعاً شتى من الثقافة العربية، فمادة الكتاب جمعها الزبيدي من أكثر من خمسمئة كتاب متنوع، في اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ والطبقات والأنساب والقراءات والسياسة وغيرها. وكأنه أراد أن يجمع أكبر قدر ممكن من المكتبة العربية ويضعها في سفر واحد، كأنه يخشى عليها الضياع أو التلف.

أما تحديداً فإن الزبيدي أقام كتابه التاج على شرح كتاب (القاموس المحيط) للفيروزآبادي (ت 816 هـ)، المتضمن لمعجم (الصحاح) للجوهري (ت 400هـ) مع استفادة واطلاع على (المحكم) لابن سيده (458هـ).

ولهذا نرى الزبيدي سمى معجمه (تاج العروس من جواهر القاموس)، وقد استغرق تأليفه أربعة عشر عاماً وشهرين في عشرة مجلدات ضخمة.

وقد طبع الكتاب (التاج) حديثاً طبعة جيدة بالكويت في أربعين جزءاً، استغرقت عملية التحقيق والمراجعة والطباعة منذ ظهور الجزء الأول سنة 1965 وحتى الجزء الأربعين عام 2001 م. أكثر من خمسة وثلاثين عاماً.

أما المنهج الذي اتبعه الزبيدي في تاجه الفريد هذا، فإنه التزم المنهج نفسه الذي سار عليه الفيروزآبادي في قاموسه المحيط، وهو الترتيب المعتمد على القافية، أي اعتماد الحرف الأخير من الجذر اللغوي ثم الحرف الأول منه ثم ما يتوسط بينهما، وهي طريقة صعبة على الناشئة في العصر الحديث، ولهذا أهملها المحدثون كما فعل التليسي في النفيس، كما سنرى بعد حين.

                                            ***

ومما سبق ينجلي، إن التصدي لكتاب مثل التاج ليس أمراً سهلاً على الإطلاق، والتليسي عرف هذا جيداً ولكن عزمه لم يهُن، فنفسه التواقة لإنجاز كبير دفعته لخوض غمار هذه التجربة الفريدة.

ولهذا علق التليسي في مقدمة الكتاب قائلاً: “هذا عمل من أعمال المجد وليس من أعمال الكسب”. وهو حقا كذلك، إنه معجم خليفة محمد التليسي النفيس، صنعه أول الأمر لنفسه، كما يقول، فأضفى عليه طابعاً شخصياً فريداً، ثم ما لبث هذا الإنجاز أن تحول إلى العموم ليصبح درة المعجمات الحديثة التي ابتغت تهذيب اللغة وتشذيبها وتخليصها من الإضافات والاستطرادات الموسوعية التي غلبت على جهد القدماء في مؤلفاتهم اللغوية.

والحقيقة أن التليسي لم يكن سباقاً في هذا المجال، فقد سبقه كثيرون في مسألة تهذيب معاجم القدماء واختصارها، وقد أقرَّ بذلك، قائلاً، بتواضع العالم، إن النتائج التي وصل إليها ” لا تختلف في شيء عن النتائج التي انتهى إليها مؤلفو المعاجم في مطلع النهضة الحديثة، وما تلاها حتى يوم الناس هذا “. لكن جهد التليسي يختلف:

فكثير من الأعمال الحديثة قامت على الغاية نفسها، التي سعى إليها صاحب النفيس، فكل المحاولات السابقة للتليسي قامت على التبويب والتهذيب والاختصار، للمعجمات العربية القديمة، بل إن عددا من القدماء مارس هذا العمل أيضاً، أشهرهم الجوهري في الصحاح، الذي أهمل من اللغة المفردات المماتة أو تلك التي أهملها الاستعمال، ولذا سمى معجمه الصِّحاح، أي أنه اثبت فقط الصحيح من اللغة، وعمله هذا أصبح منطلقاً لكثيرين جاؤوا بعده وساروا على نهجه، وعددوا مزاياه، ذاكرين أنها تبدو في التماسه الصحيح الذي لا خلاف فيه، وسهولة تناوله ومأخذه، والوصول إلى الكلمة المقصودة دون كبير عناء، واختصاره في الشرح والتفسير، وتركه الفضول الذي لا غناء فيه وجمال أسلوبه في الشرح وذكره شواهد الشعر الرفيع وكلام العرب غير المصنوع، وتجاوزه ذكر من ينقل عليهم غالباً، رغبة في الإيجاز، وعنايته بمسائل النحو والصرف، وإشارته إلى الضعيف والمبتكر، والمتروك والرديء، والمذموم من اللغات وإلى العامي والمولّد والمعرب والاتباع والازدواج والمشترك والفوائد والنوادر والألفاظ التي لم تأت في الشعر الجاهلي وذكرها الإسلام وإلى الأضداد.

وعلى الرغم من أن بعض القدماء قد عاب اختصار الجوهري، إلا أن هذا الأمر بدا حاجة ملحة في العصر الحديث، وأصبح التهذيب والتشذيب من أهم أعمال هذا الأوان.

ولهذا وجدنا عدداً من المحاولات عند المحدثين، تهدف إلى تنقية اللغة وإثبات المستعمل منها وإهمال ما أماته عدم الاستعمال.

لكن اختلاف التليسي وفرادته تكمن في كونه أول من تصدى لتهذيب (تاج العروس)، هذا العملاق الكبير، وجعله ملائماً للحاجات الحديثة، وليكون جسراً واصلاً بين المعاجم القديمة، وما يراد تأليفه من معاجم حديثة تعتمد عليها. كما أنه أعاد ترتيب المادة اللغوية وفق الترتيب الألفبائي الذي من شأنه أن يسهل أمر الوصول إليها بأيسر الطرق بدلاً من الترتيبات المعجمية القديمة التي يصعب على الناشئة خصوصاً تعلمها إلا بعد عناء وجهد.

فلو انحصر جهد التليسي في التبويب أي إعادة عرض المادة اللغوية في التاج بالترتيب الألفبائي بدلا من طريقة القافية التي أشرنا إليها ونحن نتحدث عن التاج، لكان عمله كبيراً وجهده عظيماً بالنظر لغزارة واتساع مادة التاج. لكن إنجاز التليسي تجاوز هذا بكثير.

فهل ما فعله مجرد اختصار وتهذيب لمادة (تاج العروس)؟

الحقيقة أن التليسي لم يعتمد على المادة اللغوية المبثوثة في التاج وحدة، بل نراه استفاد كذلك من الأصول التي أخذ عنها صاحب التاج، وأهمها معجم القاموس المحيط.

فالتليسي اختار عنوان معجمه الفرعي على هذا النحو (صفوة المتن اللغوي من تاج العروس، ومراجعه الكبرى)، وهذه دلالة واضحة على اهتمامه بجمع مادته من تاج العروس وكل ما سبق التاج من معاجم، على اعتبار أن صاحب التاج قد رجع إليها أثناء تأليفه سواء أشار إليها أم لم يفعل، وإلى هذا يشير التليسي وهو يذكر موسوعية تاج العروس واستفادته ممن كان قبله يقول: “وقد اعتمد (يعني صاحب التاج) في هذه الموسوعية على كل المعاجم التي سبقته. مع تعويل خفي، بصفة خاصة، على (لسان العرب) ملفوف بالاستدراك وشرح القاموس، وهو أمر لا يمكن أن يخطئه الدارس المحقق، العارف بتاريخ المعاجم، وتأثير السابق في اللاحق منها.”

يقول التليسي في محاولة استباقية للإجابة عن تساؤلنا السابق:” ولو لم يكن من هذا العمل إلا أن يشهد لي بأنني قرأت تاج العروس من الغلاف إلى الغلاف، ورجعت إلى مصادره الكبرى، ورحلت إليها رحيل أصحابها القدامى من نجع إلى نجعٍ ومن ربع إلى ربع، من أجل تقييد شاردة أو تسجيل فائدة حتى استوى هذا العمل بهذا الشكل، لكفى بذلك فخراً واعتزازاً وشهادة لي على عمق الصلة بهذا التراث العظيم سواء تمثّل في مجال اللغة أو الأدب أو في باب من أبواب المعرفة التي حوتها الموسوعة اللغوية. وحسبي شرفاً أن أصنف ضمن أصحاب المختصرات وفيهم الرازي بمختار صحاحه وابن منظور بمختصراته العديدة، والزبيدي الذي اختصر ولخص ونقل حتى أقام عمله اللغوي هذا في أربعة عشر عاماً.”

وقد وجدتُ من خلال تتبع مسار بعض المواد اللغوية بدءاً من النفيس رجوعاً إلى التاج ثم إلى لسان العرب، أن التليسي بذل جهداً ضافياً في تتبع مادته اللغوية، وتنقيحها وتخليصها مما علق بها من إضافات يصعب الحكم بإهمالها، لكن التليسي فعل ذلك، استخدم عقله وذائقته للحكم على المتن اللغوي الذي يجب إهماله كليةً أو اختزال مادته أو تركيزها أو تكثيفها.

وهو عندما يعطي نفسه هذا الحق، يشير إلى أنه أباح لنفسه هذا التصرف، انطلاقاً مما أباحه القدماء لأنفسهم في التصرف بالتوسع والاستطراد في جمع المادة عند البعض، أو في التهذيب والاختصار عند البعض الآخر.

كما لاحظتُ أن التليسي التزم بأصول المادة اللغوية، فلم يزد شيئاً من المصطلحات الحديثة والكلمات المستجدة، فقد قيد نفسه بالأصل اللغوي للتاج، فكان هدفه تهذيب مادة التاج وجعلها قريبة المنال متاحة للقراء عموماً، دون أن يجهد نفسه في إضافة شيء مما أضافه بعض المحدثين في معاجمهم، وبرأيي فقد أحسن صنعاً بعمله هذا، فهو التزم منهجاً تقيد به رغم إغراء كثير من المصطلحات والمفردات الحديثة، خاصة تلك التي أجازتها مجامع اللغة العربية، وخاصة المجمع اللغوي بالقاهرة.

فهذا العمل الكبير، لا شك، يمجد اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ويضع لبناتٍ راسخةً في مسيرة تطورها، وهذا واجبنا جميعاً، جيلاً بعد جيل، ولقد صدق التليسي وهو يقول إن عمله هذا ليس من أعمال الكسب ولكنه من أعمال المجد.

وبعد بمَ يختم التليسي حديثه عن معجمه يقول:” وأعترف بأنه على ما في هذا العمل من مشقة، فقد حقق لي متعة شخصية، هونت عليّ ما لقيت من تعب، في الدخول في مجاهل أدغاله وغاباته، خاصة وقد حاولت أن أعود بخير ما في الغابة المتشابكة من غلال وفواكه وزهور، كونت هذا البستان الذي اسمه النفيس.”

فهذا العمل الكبير، يصدق قارئه منذ أن يضع بصره على عنوان غلافه، فهو الصفوة المنتقاة من أشهر متن لغوي في الثقافة العربية، قدمه التليسي في أربع مجلدات من منشورات وزارة الثقافة والإعلام عام 2007 بمناسبة طرابلس عاصمة الثقافة الإسلامية.


د. فوزي عمر الحداد | أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية طبرق جامعة طبرق

مقالات ذات علاقة

قلب النجيب ودم العاصفة

مهند سليمان

الطاهر الامين المغربي: مواعظ تشكيلية

المشرف العام

اللغة والسؤال والعذوبة المحكية في شاعرية محمد الدنقلي(*)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق