سليمان جمعة (شـاعـــرٌ ونـاقـدٌ – لبنـان)
* نصُّ: ضجيــج الصَّمْتِ لخالد السحاتي:
استشاط الصَّمْتُ غَضَباً، أمسك بتلابيب حَارِسِ الزَّمَنِ الكَسُـــولِ، أوْقَـعَـهُ عَلَى الأَرْضِ..
نظر يمنة ويسرة، حاول إيهامَ نفسه أنه بخير، لكن هذا الهراءَ لم يرُقْ لهُ!، فذهب ناحية السَّراب ليُفْــرِغَ فِي وَجْهِهِ تلك الشُّحْنَة مِنَ الصَّرَاخِ والصَّخب اللذَيْنِ ينُوءُ بحَمْلِهِمَا لسنواتٍ طويلةٍ، تَنَـــاهَى إلى سمع السراب ضجيحٌ مُرْعِبٌ، لم يعرف مصدره، وحين أبصر الصمتَ لأول وهلة أفزعه ما رأى! هدَّأ من روعه قائلا له:
-إنك من ذهب. أجاب الصمتُ بهُـدُوءٍ مُصطنعٍ: وهل يتجاهـلُ النَّاسُ الذَّهَبَ ويُقْصُونهُ في زاويةٍ مُهملةٍ؟.. عندها فقط تبادل الصديقان الأدوار،
فصمت السرابُ، ودخل الصمتُ في حالة من الصراخ المتصل حتى تحوَّل إلى سراب!!.
*القـــراءة:
*اختراق سُلطة الثابت:
العُبُورُ منْ بلاغة الجُملة إلى بلاغة النَّصِّ .
النَّصُّ استعــــاريٌّ: حيثُ أجرى الكاتبُ تجسيماً للمَعْنَى ..
الصَّمْتُ يصيرُ جسداً يتحرَّكُ، ويُحدثُ ضجيجاً، فيتخلَّى عن سُكُونِهِ. فما الذي دفعهُ للضَّجيج والصَّخَبِ؟.
…فتحرَّكَ إِلَى (حَـــارِسِ الزَّمَـنِ) فأخـــذ بتلابيبه.. من هُــو (حــارس الزَّمَـــنِ)؟.
الحركةُ: التي تُحدِّدُ الزَّمَــنَ.. وتُعْطِي للفكر وُجُــــوداً.
فالصَّمتُ نظر إليه أنَّه كسُولٌ، لا يتحرَّكُ حركتهُ. ماذا يعني ذلك؟.
الحركةُ تُحيلُ إلى مُغادرة السُّكُونيَّة والتَّغيير والتَّطوُّر أو الافصاح عن الذَّاتِ ..
إذاً الصَّمْتُ مُتحرِّكاً كمُعادِلٍ لكسل الحركة التي تُولِّدُ الزَّمَـن.. فينظُرُ الصَّمْـتُ فِي ذَاتِـهِ.. كَيْفَ استطاع أنْ يَتَبَدَّلَ، ويكُونَ غَيْرهُ، فيذهبُ إلى (السَّــــرَابِ) ..المُتَجَسِّدِ ..
السَّرَابُ: هُــو المُتهيِّءُ الوَهْـمِيُّ فِي المَكَانِ (الصَّحْـرَاءِ)، حيثُ لا موانئ لنهاية المَسِيرِ.. التِّيهُ والعطشُ والتَّعَبُ الذي يتوهَّمُ بوُجُــودِ المَاءِ، أي: فاعليَّة الخِصْبِ..
الصَّمْتُ: هُو غيابُ الكلام، والسَّرابُ: غيابُ المــاء.. أي: غيابُ حركة الحياة أو جُمُودها.. أو لا إنتاجيتها، و عدم خصبها، أو إنها لا تعبر عن ذاتها.. فالصَّامتُ يكتنزُ خصبهُ، والتَّائِهُ مُضيِّعٌ لهـــدفه.. السَّـــرابُ وَهْــمٌ ..السَّرَابُ بالتقائه بالصمت أثار تعجُّبهُ.. وخوفه أن يحمل همَّهُ، أي ما اكتنز في جوفه من ضجيجٍ، فهــدَّأ منْ رَوْعِهِ بأنَّهُ منْ ذهبٍ، والكلامُ منْ فضَّــةٍ. .والذَّهَــبُ يُقْصُونَهُ، يكنزُونهُ كالصَّمْـتِ.. فَمَنْ هُــمْ؟.
الذين يتحرَّكُونَ، أيْ: يتصرَّفُــونَ خَطَــأً.. فالنَّتيجةُ أنْ صَمَتَ السَّـــــرَابُ؛ لأنَّ منْ طبيعته الهذيانُ عندما يشتدُّ تيهُهُ وعطشُهُ في مسيرةٍ لا اتِّجاه لها، فصَمَتَ يُضمرُ هذيانه.. وانفجر الصمتُ يتكلَّمُ بعد أنْ كان ضجيجاً لا غير، فالكلامُ هُــو تعبيرٌ عن الذات.. وصمتُ هذيان السَّــراب محوٌ للتِّيه، والكلام خطابٌ.. للآخـــــــــــر.. أي: التواصل الذي كان رغبة لا غير، وقد كان هـــذيــانــاً، أي: غيرُ بليغٍ ولا فصيحٍ، وفي تيه مكـــانــــه .
إذاً، انفجارُ الصَّمْتِ وضجيجُهُ هُو التَّعبيرُ عَنْ ذاتٍ رأتْ أنَّ (حارس الزَّمن) الحركة كسُولةٌ، تحتاجُ إلى زخم ونسغ جديد من التواصل والحوار، وليس الهذيان أو التيه في مكانٍ خـــالٍ مِنَ الآخَـــرِ (الصحـــــراءُ) .
والهذيانُ: لا ماء فيه، أيْ: محل ووهم.. والضجيجُ إنْ تفجَّــر يكُونُ نبْعاً للتَّجربـة.. ومن المفيد أن المعاني تتحول إلى نقيضها، فالصمتُ: أخذ دور السراب؛ ليتكلم، ولكن بوعي، وليس هذيانا؛ لأنَّهُ مُحَمَّلٌ بشحن المُراقبة وحركة المَعْنَى فِي حَرَكَتِهِ. وكذلك السَّرابُ، اتَّخذ دور الصَّمْتِ؛ لشحن ذاته صخباً وضجيجاً، وليس هذياناً؛ لأنَّهُ هُو وَهْمٌ، قد أُفْـرِغَ مِنْ مَعْنَاهُ، فالشَّحْنُ النَّفْسِيُّ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْرِيغٍ، وَلَكِن بِفِعْلِ مُرَاقَبَةٍ وإِدْرَاكٍ، لِيَكُونَ التَّحَوُّلُ وَعْياً ..