متابعات

صورة “الليبي” في فنونه

تقرير: محمد مصراتي

في بادئ الأمر، كانت فكرة افتتاح معرض يهتم بالفن الليبي المعاصر أشبه بنكتة. أو بالأحرى، النكتة هي وجودَ مؤسسة ما تهتم بالفن الليبي المعاصر وتروّج لهُ في أوروبا والعالم. بإمكاننا القول أيضًا، أنّ أربعين عامًا عاشها الليبي في عزلة وخوف من العالم الخارجي والضياع في الداخل، بالاضافة للكبت والكتم والضيق، كلها كانت عوامل سلبية أدّت لإنهيار الفن والأدب في ليبيا، ليس ذلك وحسب، بل أدّى هذا لخلق نوع من الخوف في داخل الفنان الليبي أدّت إلى ما سأسميه الآن بـ “هاجس الهوية”. فمذ أن دخلتُ معرض “الليبي”، بمقر “المركز العربي البريطاني” في لندن، كانَ سؤال الهوية موجودًا في كلّ مكان حولك: في الأعمال الفنية المعروضة وفي وجوه الفنانين وعوالمهم وطريقة شرحهم لدلالات الاعمال المعروضة والأجواء النفسية في داخل الفنان في تلكَ اللحظة، والتي أدّت في أخر الأمر لولادة هذا العمل. كنتُ أتنقلُ بينَ كل عملٍ وأخر، باحثًا في الزوايا فقط عن الأسئلة التي تطرحها هذه الأعمال.. وكل ما عثرتُ عليه.. كانَ يوحي بأنّ الاجابة هي: “أنا ليبي، ولكنّي أمتلكُ حكاية أيضًا”.

وأتساءلُ مجددا في خضم كل ذلك ان كنّا نستطيع خلق ثقل ثقافي وفنّي ليصنعَ تغييرًا في داخل منظومة المجتمع. أقصد، صنعَ ذائقة فنّية حديثة وتحاكي التفاصيل الصغيرة التي تلمسُ تفاصيل الحياة اليومية، فعندما كنتُ يومها في طريقي لحضور افتتاح المعرض، قرأتُ مقالاً لـرشاد الهوني كتبهُ في العام 1967، ويحكي فيهِ عن دور المثقف، والكاتب والفنان تحديدًا في محاكاة واقعه وواقع المحيطين به. كانت أسئلته تطرق هي الأخرى في رأسي، وكل ما كنتُ أبحثُ عنه هو التفاصيل.

هناكَ شيء أخر أيضًا خطر ببالي وأنا أدخل المعرض، ألا وهو أنّ معظم المهرجانات الفنية التي أقيمت في بريطانيا للتعريف بحصيلة انتاجات الربيع العربي الفنية، كانت تستبعدُ ليبيا، بل انّ الثورة الليبية في نظر العديد منهم لم تكن ثورة شعبية، بل انقلاب على الحكم بمساعدة قوى خارجية. ولهذا، أحسستُ بسعادة حينَ قرأت ما كتبه المشرفون على موقع “نون”، الراعي لمعرض “الليبي” على موقعهم، أنهم يودّون الترويج والتعريف بالفن الليبي في العالم.

لقد حظى المعرض والذي افتتح يوم الخميس 22 نوفمبر لدعاية كبيرة على الانترنت من قبل مستخدمي المواقع الاجتماعية بالإضافة لاستغلال الكم الكبير من المواقع والصحف الليبية باللغتين العربية والانكليزية. كانت الدعاية محدودة على الانترنت فقط، بالإضافة إلى أنّ مبنى “المركز العربي البريطاني” الواقع في قلب العاصمة البريطانية لندن صغير جدًا وتتوزع فيه مكاتب صغيرة للموظفين، لهذا كانت التوقعات أن الحضور سيكونُ محدوداً، بالاضافة إلى أنهُ سيستمر حنى 30 نوفمبر وساعات افتتاحه في النهار محدودة وفي وقت يكونُ فيه معظم الناس في دوام عملهم. ولهذا تفاجئتُ في يوم الافتتاح بالزحام الذي شهدهُ المكان، حتى اضطر العديد للوقوف خارجًا في انتظار أن يخف الازدحام للدخول. كان المكان يضج بالعديد من الفنانين البريطانيين وأصدقاء الفنانين وأخرين أرى صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بلغور وتويتر وتامبلر وانستغرام.

ستجد عندَ المدخل كتيّب، أصفر اللون وصغير الحجم، كُتب على غلافه اسم “نون”، وفي داخله تعريف بالفنانين المشاركين وأعمالهم، بالاضافة إلى تعريف بمؤسسة (نون) ومهمتها والأهداف التي تسعى لتحقيقها في مشروعهما.

مؤسسة نون، تديرها الفنانتان الليبيتان “نجلاء العجيلي” و”نسرين جبريل”. تكتبُ الفنانتان في تعريفها بمهمة مشروع “نون” أنهما تسعيان لإظهار الفن الليبي على مسرح الفنون العالمية. “مهمتنا هي رصد وتشجيع الفنانين الليبيين، المحترفين والناشئين والاحتفاء بأعمالهم” كما ورد في الموقع.

تقول نجلاء العجيلي في تعريفها بمشروع “نون”: “فكرة المشروع ابتدأت في أبريل 2012، حينَ كنتُ أتجوّل في أروقة الأجنحة الفنية بمعرض طرابلس الدولي، ووقتها ذهلت لرؤية هذهِ الأعمال ذات الجودة الفنية الراقية، وأحسستُ أنّهُ من الواجب أخذها إلى المسرح العالمي”. وتضيف: “مهمتي ونسرين في مشروع نون هو أن نكونُ جسرًا للفنان الليبي من أجل نجاح أعماله، لهذا نرى أعمالهم، نكتشفها، ومن ثمّ نروّج لها إلى العالم”.

كما تذكر نجلاء أنّ ليبيا كانت وظلّت في داخلها. اذ أنّها كانت تستمدُ ليبيا من حكايات والديها وذكرياتهما هناك، ورغمَ أنّ ذهابها إلى ليبيا كانَ محصورًا في زيارات قصيرة على مدى الثلاثين سنة الماضية، إلاّ أنّها كانت ترى في هذهِ الزيارات جمالاً خفيًا في الثقافة الليبية واناسها المذهلين.

تقولُ نجلاء أيضًا أنّ “التنوع في الشعب الليبي، بأوضاعه الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية شيء أردتُ أن يفهمه ويستوعبه الناس من حولي”

وحولَ تاريخ الفن في ليبيا، تقولُ العجيلي “الفن في ليبيا موجود منذُ ألاف السنين، اذ أنّ أول كهف نقشت عليه اللوحات والرسومات موجودٌ في جبال أكاكوس بالجنوب الليبي ولا تزالُ الرسومات متواجدة حتى اليوم”. وتضيف قائلة: “التاريخ أيضًا قام بمسحتهِ النسيج الثقافي للبلاد، منذ الاغريق والرومان والعثمانيين والأمازيغ والعرب والأفارقة بالإضافة إلى الايطاليين”.

كذلكَ “نسرين جبريل” كانت غائبة عن ليبيا، إلاّ أنّها تقول بأنّ الثورة الليبية وولادة البلاد من جديد مدّتها بالفضول للتعرّف على مكان ولادتها واكتشاف المجتمع، قائلةً أنّ الليبيين لم يقاتلوا في الثورة بالسلاح فقط، وانّما كذلك عبّروا عن أنفسهم بواسطة الفن، وذلك في توقهم للحرية، عبر الغرافيتي في الشوارع بالاضافة إلى الأغاني خلال الثورة وما بعدها.

وعن نفسها تقول نسرين أن حبها للفن نابع دائمًا من علاقة أهلها وخاصةً والدتها بهذا المجال. وتقول أيضًا أنّ الحراك الفنّي في ليبيا بعد الثورة واسقاط النظام السابق، جعلَ مهمتها في هذا المشروع ممتعة على الصعيدين الشخصي والعملي.

وتختم “جبريل” كلامها قائلة أنّ نون هي فرصة لإعطاء الفن الليبي ما يستحقه من متابعة وانتشار، وهو حلم تسعى لتطويره مع زميلتها.

حضرَ افتتاح المعرض وفد متكوّن من أربعة عضوات بالمؤتمر الوطني العام “البرلمان الليبي”، إلى جانب العديد من مراسلي وسائل الإعلام الليبية، من بينها Libya Herald و Tripoli Post، وكذلك العالمية، المتمثلة في العديد من الصحفيين البريطانيين والأمريكيين، وكذلك كاميرا تلفزيون BBC. وقد كان التركيز في المعرض – كما في الدعاية والأخبار – على أعمال الفنان الليبي الشهير “محمد بن لامين”، والذي أشتهر برسوماته التي نقشها على جدران سجن أبوسليم، حيثُ ألقيَ القبض عليه وأخيه الشاعر ووزير الثقافة في الحكومة المؤقتة “الحبيب الأمين” صبيحة يوم الثورة الليبية، وذلكَ بسبب نشاطهما في وسائل الاعلام لإسقاط نظام معمر القذافي، وتمّ حبسهما في معتقل أبوسليم، حيثُ ظلّ محمد بن لامين في تلكَ الزنزانة طيلة ستة أشهر من الثورة والحرب، وجدَ نفسهُ فيها ينقش هواجسه وخوفه على الجدران، محاولاً أن يكتشف ما يحدث خارج هذه الأسوار، دون سماعِ أي خبر حول الثورة والثوّار، وكل ما يسمعهُ كان قصف طائرات الناتو، حتى تحرير طرابلس فجر العشرين من أغسطس 2011، وعودتهِ إلى مدينته “مصراتة”، ودخوله في عزلة فنية داخل معمله ومرسمه، حسبما قالَ لي الصديق الكاتب “محمد مليطان”، والذي كانَ حاضرًا ضمنَ وفد المؤتمر الوطني العام.

معظم أعمال محمد بن لامين الفنّية، تعبّر عن خوف الانسان ووحدته. الأعمال المتواجدة في المعرض، كانت كلها أعمال يدوية لأناسٍ مصنوعين من الحديد والخزف والقطع الصغيرة والصفائح، انها تشبه تلكَ الأعمال التي يعلقها في معمله، والمصنوعة من الرصاص والقنابل المستعملة ابان حرب الشوارع في مصراتة. انّ المتابع لأعمال محمد بن لامين قبيل الثورة ومقارنتها بالتي قامَ بصنعها واعدادها بعدَ الثورة، سيكتشف هذا الولع الذي تملكه وهو يحاول ايصال لنا فكرة هذا الشخص الغريب المصنوع من رصاص الأسلحة المضادة للطائرات. حينَ تقترب بنظرك إلى التفاصيل، بامكانك رؤية تفاصيل الحياة الروتينية في زنزانة صغيرة بجدران عالية، وحرب ضاربة على بعد كيلومترات قليلة.

أمّا الفنان “يوسف فطيس”، فلوحاته تعبّر عن روح خفيفة وخجلة. لوحاته بسيطة في مواضيعها، سوريالية البعد، ويضعُ عليها لمسة أو صبغة ذات بعد شعبي في الثقافة الليبية. اذ أنه يتناول مشاهد معتادة من زاوية المشاهد العادي. عينِ الانسان الجالس وهو يراقب ما حوله. هنا نراهُ مثلاً في احدى لوحاته المعروضة يمثل لنا صورة امرأة ترتدي الملابس التقليدية “الفرّاشية”، والجمع الأشبه بها من حولها، إلاّ أنّ هناك شيء ما في تفاصيلها أو بعدها عن عين المتلقي يجعلها فريدة ومميزة. المرأة في لوحات فطيس تبدو دائمًا صاحبة لقطة رومانسية أو مزاج وردي.

محمد البدري يعيش في عالم أخر.. أثارت لوحاته انتباه العديدين بسبب غرابتها وكمّية التجريب فيها. اذ أنّي أذكرُ حديثًا بينَ اثنين بالقرب منّي حول لوحته المعروضة والتي كانت فيها الألوان قريبة ومتباعدة في ذات الوقت، مستخدمًا العديد من الألوان البنّية المركزة، وأستطاع أن يجمعها في لوحة تامّة.

فاتن البعباع لم تكن حيّة في المعرض بأعمالها الفوتوغرافية وحسب، بل كذلكَ حيّة بنشاطها في التنقل بين الحضور والتحدّث إلى الجميع والتعريف بأعمالها. بامكان المتحدّث إليها أن يكتشف الكثير عن أعمالها، وطريقتها السوريالية في التقاط ما حولها والتركيز في التفاصيل كالوجوه وطريقة وقوف الشخص في صورها. معظم الصور التي شاركت بها، التقطتها في مشروع قامت به في السفر ما بين ليبيا وعدّة دول، محاولة التركيز في التقاط كل ما يعبر عن المكان في صورة واحدة.

نزيهة عريبي، والتي تعرفتُ عليها في بريطانيا العام الماضي قبيل انتقالها إلى ليبيا، حيثُ بدأت عملها مع عدّة محطات ليبية في اعداد أفلام وثائقية قصيرة، بالاضافة إلى الاعلانات الارشادية التابعة لمنظمات المجتمع المدني وكذلك الأفلام القصيرة التي تنشرها على صفحتها بموقع “تامبلر”، وتكتب بشكلٍ مستمر عن الناس الذين تعرفت عليهم وكذلك الأوساط الشبابية، حيث تلتقط في أعمالها الفوتوغرافية والوثائقية تفاصيل الروتين اليومي للشباب، والجانب الانساني للناس العاديين الذين شاركوا في الثورة بشكل سرّي دونَ أن يكونَ لهم مطامع مادية أو سياسية. فنذكرُ هنا على سبيل المثال الفيلم القصير (رايات جدتي) عن العجوز الليبية في طرابلس قبيل تحرير العاصمة، والتي كانت تقضي الليل متخفّية في غرفة صغيرة تحيك علم الاستقلال بألوانه الثلاث، لتعطيه إلى ثوّار العاصمة، والذينَ كانوا يستخدمونه في التعبير عن العزيمة والمقاومة.

تستوحي الخزّافة والنحاتة هادية قانا أعمالها من تاريخ البلاد، معتمدة في ذلك على مواد عتيقة أو صنع معالم ليبية أثرية، ومعظمها يرمز لمعالم طرابلس. انّها تؤثث المكان الذي عاشته. محيطها الأثري. ما تلقطهُ عينها في تفاصيل “المدينة القديمة” وأبوابها وحيطان بيوتها. نكتشف في أعمال هادية قانا الوجه التاريخي لطرابلس.

يقفُ المتلقي كثيرًا أمام لوحات “مختار الشريف”. ننظرُ مليًا في الصورة ونركز عليها بشكل عام. وان كانت الصور بسيطة ايضًا في مواضيعها، إلا أنه يلمس في مجمل ما قدمه للمعرض نظرة انسانية تكشف هواجس داخلية وولع وحنين يختزلها على هيئة “سفرة العالة” مثلاً أو وجه امرأة حزينة تقف عندَ النافذة.

عندما كنتُ أهم بالخروج من المعرض، وجدتني محاصراً بكم من الأسئلة، منتعشًا أيضًا بهذه الأسماء والأعمال، وجدتُ نفسي أفكر أيضًا أن التواجد النسوي في الساحة الفنية والأدبية في ازدياد ملحوظ، وذلك بعدَ أربعين سنة، كان يجب على الفنان فيها أن يخفي فنّهُ كي لا يتورط مع النظام اذا حدث وفكّر في أن يكون على مستوى معروف قد يؤثر في مدى شهرة “الأخ الأكبر”. أمّا الأن، فقد باتَ هناك متسعٌ من الحرية. باتَ الفنان أيضًا يعبّر عن هواجسه، ويطمح في التغيير وفي خروجه من العزلة التي أحيطت به.

مقالات ذات علاقة

إبراهيم الكونى من «ملتقى تونس للرواية»: «البيست سيلر» مجرد شهادة زور

المشرف العام

تونس تحتضن الاجتماع الأول لوزراء ثقافة دول غرب البحر المتوسط (حوار 5+5)

المشرف العام

حوارية تفتح النقاش عن ثقافة التعامل مع الكوارث

مهنّد سليمان

اترك تعليق