سيرة

للتاريخ فقط (19)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

الصورة عام 1992م يوم ان كرمتنى جماهير بنغازى كأحد رواد الثقافة الليبيه

الحلقة: 19/ وعــند صـفاء اللـّـيل قد يـحـدث الكـدر

بعد خروجى من السجن وفي بداية عام 1969م تم زفافي على الفتاة التي أحببتها منذ منتصف الستينيات، وبنيت بيتًا في مساحة أرض متبقية بجوار بيت أهلى بالأرض الحكومية (المقابلة لمصرف الادخار العقارى حاليأً)، وأعادتنى حكومة المملكة لسابق عملى بالكهرباء، بعد أن ردت لنا اعتبارنا جميعًا (واعتبرت المدة التي قضيناها في السجن مدة خدمة فقط لم تصرف لنا مرتباتنا) وفي نهاية عام 1971م أعطانى عميد بلدية درنة (محمد فالح) أرضًا بديلة عن الأرض التي أقمت عليها كشك بيتى اشتريتها من الدولة بمنطقة باب طبرق، وتم حصولى على قرض بناء ووجدت مقاولا تولى عهدة بناء البيت ليسلمه لي جاهزًا للسكن خلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر وبمبلغ قرض البناء الذى سيصرف لي على دفعات من مصرف الادخار العقارى فرع درنة، واشتريت سيارة مستعملة وصرت موظفـًا فاعلا في مجال الثقافة من خلال المركز الثقافي بدرنة، وكنت حينما أذهب لتفـقد بناء البيت آخذ معى صديق السجن المرحوم (عبدالله الحصادى) حيث كنت وأنا أتنفس الصعداء سعيدًا بكل ما حققته من امنيات، كنت أحلم بها خلال فترة سجنى وغربتى ومعاناتى، أقول له: الحمدلله يبدو أن الدنيا ستروق لنا بعد كل ما رأيناه من معاناة الغربة والسجن.

استمرهذا الوضع بكل هذه التفاصيل والاحداث الجميلة المبهجة حتى نهاية عام 1971م (كان ليل كله صفو وروعة ورومانسية ولابد من الكدر الآن)، ولم يطل انتظارى فقد جاءت الكوارث تترى واحدة بعد أخرى مع بداية عام 1972م، الذى اسميته عام الحزن ففي الأول من يناير صدر قرار اعتبارى عمالة زائدة بوزارة الثقافة، وبينما كنت احاول تفسير هذه المفارقة المضحكة وأنا أقود سيارتى حيث كنت أخاطب نفسى كالمجانين (كيف انقل إلى وزارة الثقافة باعتبار أنهم بحاجة لخدماتى وكيف اطرد منهم بعد خمسة أشهر باعتبارى عمالة زائدة لديهم).

في لحظات السرحان هذه عملت حادث تدمرت فيه سيارتى، وكى تتكامل الكارثة بكل مواصفاتها حينما زرت أرض بناء بيتى الجديد وجدت المقاول توقف عن العمل ورفض المواصلة (حيث اكتشف أن العقد مجحف في حقه) بعد ان استلم الف جنيه كدفعة اولى، وهروبًا من كل هذه الكوارث ذهبت لاجدابيا لأنفذ قرار النقل كى لا أطرد من عملى.

وهناك وضعونى في استراحة حكومية مع مجموعة موظفين منقولين هم أيضًا نقلا تعسفيًا مثلى، وذات يوم وبينما كنت أساعد أحد هؤلاء الموظفين في إعداد وجبة الغداء وكنت لحظتها أستعيد في ذهنى ماحققته من ايجابيات لصالحى وكيف تدمرت كلها فجـأة بصورة قاسية، سمعت الموظف الذى كان يجهز وجبة الغداء يتـفجر صادحًا بأغنيةعلم يقول فيها:

(لأيام ماعليهن غيظ.. أعكسـن ويـن ماحـوتـك زهـن)

ياالله ما أروع تراثنا الشعبى القديم الرائع، وما أبـلغ أغانى العلم التي تلخص بكلمات محدودة كارثة غيرمحدودة وتشفي غليلك مهما كانت قاسية في صدقها، رضخت بعدها للواقع كعادتى وحاولت التأقلم مع العمل والناس في مدينة أجدابيا الذين وجدت في روعتهم انسًا وطيبة خفف عنى ثقل معاناتى، واستلمت وظيفة معينة في مقر محافظة الخليج، وتحصلت على أجازة عدت فيها لدرنة لعلنى أجد مخرجًا من هذه الورطة، والتقيت بمحافظ درنة الذى عاهدنى بمجرد أن أحصل على موافقة النقل من محافظة الخليج سوف يوافق هو أيـضًا على عودتى لدرنة.. فاطمأن بالى لهذا الوعد وحينما عدت من اجحازتى صار همى الحصول على موافقة محافظ الخليج وتحصلت على موافقته وعلى موافقة محافظ درنة بالعودة للعمل في درنة، وكـان لابد ان تتوج هذه الاجراءات بصدور قرار من الوزيرالمختص الذى هو (الخويلدى الحميدى) والذى كانت تربطنى به صداقة حينما كان ملازم ثان بدرنة عام1965   (حتى أوشكت ان أدخله معى حركة القوميين حينها)، وذهبت لطرابلس والتقيت به وما أن جلست معه حتى أخرج لي من أحد أدراج مكتبه رسالة كنت قد بعثتها له عام 1970م أقول له فيها أن ثورتكم لم تغير شيء وأن البلاد قد عادت الى ما كانت عليه من رتابة وسوء إدارة وتطلعت الى ورقى الذى كان يفرده امامه فوجدته قد وضع خطوطًا حمراء تحت الكثير من جملى القاسية وبعد ان قرأ هذه الجمل التي حددها في اوراقى قال لي:

انت لازلت حزبي وقومى ولم تغيرك الدنيا بعد.

فقلت له: لم اكن حزبيًا حتى يوم اعتقالى كنت قد انسحبت من الحركة لعدم اقتناعى بجدواها بعد شهور من انتمائى اليهم، اما عن القومية فإن كانت تهمة فأنا اعترف واعتز بها ولازلت كما عهـدتنى حينما كنت صديقى في درنة.

وأخذنا الحديث الى كثير من الوقائع التي واجهتهم والتي اثبتت ان هذا الشعب ليس في مستوى ثورتهم (حسب قوله يشهدالله) وأن هناك صعوبات كثيرة تواجههم وتحول دون تحقيقهم لكل ماينادون به وقاموا بثورتهم من أجله، وفي نهاية حواره اشعرنى انه على استعداد لتلبية ما اطلبه منه من مساعدات.

كان بداية اللقاء ساخنـًا استفزنى وكنت حريصًا على ضبط نفسي لكى لا ارتكب معه حماقة قد أندم عليها، وهدأ جو الحوار بيننا ليسألنى عن ماذا اريد من زيارته هذه، فقدمت له قراري محافظ درنة ومحافظ الخليج، ليعتمدهما بقرار منه باعتباره الوزير المختص وتتحقق عودتى لدرنة وحاول ان يجعلنى اطلب منه بعض المساعدات حيث قال لي وبشكل مكشوف: لقد تعبت في حياتك و آن لك ان ترتاح وتعيش حياة كريمه فليتك تكتب لي كل طلباتك لكى انفذها لك(أقول هذا والرجل في دار الحق ويحاسبنى الله لو قلت كلمة غير الذى حدث بينى وبينه يومهافي مكتبه).

فقلت له ليس لي من مطلب سوى تدعيم قرار عودتى الى درنة بقرار منك وفعلا طلب من سكرتيره اعداد القرار وطلب منى ان انتظر حتى يوقعه لآخذه معى وفعلا بقيت في مكتب سكرتيره حتى أحضر لي القرار موقعًا، واخذته وعدت الى درنة ليتم إعادة توظيفي هذه المرة في وزارة الشباب والرياضة، بعد أن تكرم بقبولى معه المرحوم (محمد أرقيق) وهكذا بدأت مباشرة وظيفتى الجديدة، كأحد مفتشى الأندية الرياضية بوزارة الشباب والرياضة.

دعونا نتوقف هنا، لكى نتحدث في الحلقة القادم عن عملى بالشباب والرياضة، حتى وصلت إلى وظيفة رئيس مكتب الأندية والاتحادات، وكيف اقترح على رفاقى القدامى (جماعة الكهرباء) العودة للكهرباء، وما سببه لي هذا النقل الذى لم يكن له ما يبرره.

فانتظروا الحلقة القادمة…

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (63)

حواء القمودي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (48)

حواء القمودي

للتاريخ فقط (16)

عبدالحميد بطاو

اترك تعليق