شعوب الجبوري
عودتنا هنا، للإجابة عن سوالنا السابق، في: كيف إذا اقامت مصفوفة استراتيجية للمتخيل التأويلي بالفصل بين المفهومين التناظري والافتراضي التأويلي، مرسلة من المتلقي فعلا؟!. فنقول:
وهذا ما يفصل بين مصفوفة المفهومين: التناظر والافتراض؛ فقد أختار البعض النظر إلى الاحتمال التأويلي في التشبه والوصف بمثابة محتوى، ظاهره استفهاما ناتجا عن جوهر المتلقي، وهو الهدف لبلوغ المعنى. أما التقابل فقد اعتبر في التقليد البنيوي عدا كما دلاليا مركزه الابداع، والابداع وحده بؤرته، بنيته المركز لا صورته. بكلمة أخرى، تمثل محمولات الاحتمال التأويلي عيانية تداولية، أما محمولات التقابل، فعيانية دلالية.
وبهذا كان الاحتمال جزءا من تأمل تأويلي يوسع من تصوره لقبلية المحتوى، أي ذاكرته، لتستوعب أكبر قدر من المجريات الانتظامية، وبذلك معطاه التعدد و يحبذه، ولكنه ينفر انقياده وراء سوق الانتشار غير المقيد لمنتج وحدات معارف منظومات المعرفية الدلالية؛ إن مهمته هو أتقان دفع الذوائب إن جدت، وضبط نماء واستمرار سير التدلال في مضيها، وتقليص إمكانات رفعها، وبذلك، فإنه محدد الرؤيا، يتحقق ضمنها رسالة ما يمكن تحيينة داخل وحدة “تفكير” الخيارات الاستراتيجية، خيارا يسمح المحتوى تحيين تنفيذ. وهو ما يعني أن المركز لصناعة القرار ليس في المحتوى، بل مراد منه تحقق الرؤيا القبلية ولجم اندفاع فيوضات خارجة عند المتلقي دون قيد. فالمحمولات القبلية، طبيعتها “رؤى” وصيغتها الاحتمالية التأويلية هي التي تحدد طبيعة مسار المركز نحو مستقبلها، ما تشير الإشارات عن معايير نظم السياقات المفضلة التي تحقق رسائلها ذات مضامين استراتيجية، تجعل منها ذاتا، معطى المعنى التي تسمد منه رؤيتها.
والسياقات في هذه الحالة، تكون خاضعة، لمجرد أن يكون حال وضعها رهينة “الهبة” نجاح افتراضات تأويلية، تنزهها محتوى تنوع ادبيات كيانات مبدأ نظرية ” المعاني المقدسة” التي بنىت عليها معايير نظم السياقات/ الانتظام . تخلد فيها الكلمات حتى تصبح نصا معظما، ليس مصدرا لتأويلات متنوعة فقط، بل وأيضا حرمات متباينة الجذور عن بعضها البعض، تعبر عن ذاتا مباركة، لكونها رهينة أصول السياقية ذاتها، حمولة معاني الادبيات المقدسة عينها، أن السياق المعظم هو الذي لا يجعل الأبداع مصمما على معنى، بل خاو. بكلمة أخرى، أن السياق القدسي لمجرد أن يقبض على المحتوى يجعل تناوله موزعا على معنى جامد، مسيرا.
بمعنى، يبني له الغايات المباشرة من كلماته، وحين تعصى بعضها عن جذور الادبيات، يفوض مجازها ويحيلها على الألوهية “الهبة” كما تتجلى في وصايا “الانبياء”، ما يعكس الكلمات تشكيلة “خطاب السلطة المباشر” كتابة مقدسة، وتحيين إلحاق المعاني لها الأغراض مجازا، إحالة غوامض مساره لخطاب “رؤى” منزلتها ألوهية، كلماتها لا تتغير، وحدة محتواها متماسكة، ذاتها مسكونة بالتعظيم المبارك، كما أن رهانها “هبة” على مبدأ السياقية هذا.
وهذه نظرية “عمودية الايمان” (= من الألوهية إلى الانبياء/الاولياء)، تنتقل الى نظرية “الخلف المتعال” (= تسامي درجات إيمان العامة)، لتتخذ منها الطريق الثالث؛ هو طابعها الأخلاقي الذي يحدد ما يجب على الناس العمل والتنفيذ بها، ومن ثم المراقبة والثواب والعقاب نحو الطريق الرابع؛ المصير/الرجاء، الذي ينبهنا إلى ما يجب أن نترجاه من الخالق الاوحد.
وفي أغلب الحالات، فإن الابداع هنا ملغي، لاعتماده معان خجولة، متخذة من المحتوى لها توزيعا قبليا، موجها. أما الانتظام/السياق قوامه هنا معدم، له عناوين موسوعية متجزئة، براقة، ينطق بها جوفاء، أي قدرته الموائمة والتكييف بانعاش معطيات رؤى “المحتوى” مع تخيلات يجيزها أو لا تعترضها الممارسة المشتركة بين المرتهنيين “الوهام” إلى الحقل الثقافي نفسه.
وهذا ما يؤكد أن “تآليه” المحتوى، يعنى الخمول، إنتاج “حشويات” لامعة، مفرغة المعاني، تنتزع أي محاولة إرادة للآخر بالاقتدار، بل وتدفعه لتبني “رؤيا” المتلقي سمات “التكاسل والتقاعس” وعدمية إمكان التفكير الجاد سعيا للمعنى، بل تصور له تآلهة المحتوى، يوحد له رؤيا المعنى، حتى القبض لما يسمح به أن ينظر أو يسمع أو يقرأ لغرض الطاعة. غير أن هذا المضاف من الخارج والمسلم به لا يسمح فك أسراره، أو ميل إنتاجه، إلا تابع لقدسية كلماته المنزلة لأجل ذاته وواجبته نحوها، وإلا سيظل مسخوطا في ذاتها عليه، وفي دلالاته.
غير أن في الابداع ينهضه تنوع المعاني وحيوية تراكيبها، فهو لا يستكين بانتظار المتلقي ليقوده متهافتا، بل يحفز استقباله وينشط اختيارات متلقيه للبحث عن ثمرة وضوحه، يغرس عند المتلقي البحث المرموق واساليب الاستكشاف المبتكرة، ينعشه المضاف ما يكشف للمضاف إليه دلالات معرفية عن عصية فك اسراره، وليس يسير التسليم به دون إمكان اقتدار.
ومن نافل القول، أن ما يتصل وينفصل من التناظر والاحتمال، السبل من القبلية إلى المتلقي، عصف مكونات وتراكيب. هو أن ما يجتزأ المفهومين بين تحقق التناظر والاحتمال: هو ما يعبر به عن الاحتمال، في التفكير الاستراتيجي؛ باعتباره صادرا من المتلقي، وهو السبيل النوعي إلى الابداع، والمحتوى مركزه. بينما ما يعبر به عن التناظر، في التخطيط الاستراتيجي؛ وعدته في المنهج البنيوي تقليدية، عادا من قبليات المتلقي، صادرا من ذاكرته، وهو السبيل إلى تحليله كميا دلاليا، مولدا عنها تصميم سياقات ابداعية، محققا العمرانية، بنائية مركزه.
نعم، أنه ـ الابداع ـ لا يصلح أن يكون مجرد لمعان وعاء لكلمات براقة، عاجزة، تتعثر فيها المنظومات المعرفية الدلالية، بل هو يجدد وحدات المعرفة، تطبيقات المعاني، لتتوالد وتتنامى فيها إضافات أنشطته الخارجية، تدليل أبنيته عن تسلم المعارف كشف أسرارها، والموحياته داخله، بل يستكشف بناءه في ذاتها، بعد أن تمتد المنظومات المعرفية الدلالية تغذيتها العكسية عن اقتداره تشغل تعيين الاشياء والكشف عن الموحييات بتجدد معانيها.
وهو ما يؤشر أن الابداع ليس “الرؤى” التفكير الاستراتيجي التي يقودها المحتوى بـ”الهبة” المقدسة، ولكنه هناك “البنية” التخطيط الاستراتيجي باهدافه المحددة التي تقود السياسات للتحقق، ورسالة تضمن عملية خطوات منتظمة الممارسة، تعلق سيناريوهات ثقافية منتظمة اي شيء لخارجه نحو المتلقي، وما تتوخاه انجاح الفاعلية الابداعية، والمواكبة بالاقتدار عناصره الناشطة بالتفاعل. بمعنى، توليد فعالية موارد مرتقبة، تنشط خيارات منظومات ابداعية منتجة للتلقي، والتي يبحثها “الفاهم” المتلقي بشغف الاستقبال، يحل فيها المعطى العملي تغيير أعماله وتحديثها، المعطى الذي تشغله تصميم بنية مشاريع معمارية منتجها المعرفي، معطى الابداع الحقيقي. لا المعطى المعرفي المزيف للرؤيا.
لكن كيف يكون هناك تواطؤ في أصل المعنى عن الشيء نفسه، من دون تحرر المتلقي من انتظام مرويات المحتوى، واصل حكائية كل تنويعات فيه؟ وفي حال تحرر المتلقي من السياقات المروية، هل يتمكن من كشفه عن حقيقة الغايات والقلق الملازم له؟ وكيف أن تكون السياقات تمارس ضغوطات عن توليد المعاني، ومن اجلها يكون “المحتوى” المعرفة مزيفة، أو، بنية الاهداف حين تخفي الحقيقة؟ لاحقا نتناول الإجابة عليها.