قصة

سقف أزرق

 
كان لبيتنا القديم سقف مفتوح، كل الغرف تفتح في وسط الحوش، إلا غرفة الضيوف كانت تحتل مربعاً صغيراً في المدخل إلى جانبها حمام صغير.
في أيام الشتاء وعندما يأتي المطر، كنت أقفز جرياً يلفني ذلك الإحساس الذي أجد صعوبة في وصفة، قد تكون البهجة هي الأقرب للوصف، فمن خلال ذلك الفضاء يزورنا المطر والشمس وحتى القمر. ورغم تذمر أمي من ذلك، إلا أنني لم أعرف السبب! ربما لأنه في أيام الشتاء كان المطر يتسرب إلى غرفنا، وأحياناً كثيرة نضطر إلى رفع كل السجاد والمراتب حتى تجف.

من أعمال المصور.. نصر العنابي
من أعمال المصور.. نصر العنابي

 
كان شارعنا به أربع بيوت متلاصقة، وأمامنا تمتد مساحة كبيرة من (السواني الخضراء)، ملك لجارنا وله أيضاً بيتنا الذي نسكنه. كنت أرى بيتنا جميلاً رغم بساطته وقسوة الشتاء عندما يلزمنا الخروج إلى الحمام في الليالي الباردة، وقد يكون المطر يتساقط بشدة، والتماع البرق وصوت الرعد يشعرنا بالخوف والرهبة.
 
كان هناك في وسط الحوش وعلى جانبي الغرف بقايا علب معدنية كبيرة قد تسلقت منها بعض الوريقات الخضراء، وقد تعلقت بالجدار الخشن لتعطيه بعض البهاء، وتزينت بعضها بورود حمراء وبرتقالية، وقد كان للحبق بعض النصيب فيها.
 
في الليالي الصيفية كنت أترك غرفتي وأضع فراشاً صغيراً على الأرض، وأستلقي هناك ووجهي لتلك السماء البعيدة، أحياناً كثيرة تكون هناك نجوم بعدد أحلامي الصغيرة، أظل أعدها حتى يغافلني النوم وفي الصباح أجد نفسي في سريري، فقد كنت أتعب أبي حتى يضعني هناك، فقد كان لنا سرير بطابقين وكنت أنا قد أخترت أن أكون في الطابق العلوي وكأني في عرش ملكة.
 
ذلك اليوم عندما خرجنا للذهاب للمدرسة، كان أبي يقوم (بتسخين) سيارته، كنا ننتظر ربع ساعة حتى ننطلق، أثناء ذلك جاء جارنا مسرعاً وطلب من أبي حديثاً جانبياً، بعد رحيلة رأيت على وجه أبي بعض القلق وأدركت أن هناك خطباً ما.
 
كانت “عائشة” زوجة جارنا تأتي إلينا كثيراً، لم يكن لديهم أولاد، كانت جميلة ذات شعر أحمر وبشرة بيضاء. أحياناً كثيرة تأتي ليلة الجمعة لتسهر معنا حتى منتصف الليل، تخبرنا قصص وخراريف، كان أقربها إلى قلبي قصة أبو زيد الهلالي.
 
تلك الليلة لم تأتي، وطلبت مني أمي أن أذهب لأعرف سبب غيابها، عندما دخلت عليها وجدتها تجلس في غرفتها وتحت ركبتيها سجادة الصلاة وقد بدت عيناها حمراوان من شدة البكاء وقالت لي والدمع يغالبها؛ إنها تشعر ببعض المرض ولا تستطيع الخروج.
 
بعد يومين قال لنا أبي أنه تحصل على شقة، وأننا سننتقل إليها في أسرع وقت. عندها عرفت أن جارنا قد طلب من أبي إخلاء البيت، ولم أعرف السبب إلا ذلك اليوم! عندما رأيت جارنا ومعه امرأة صغيرة تلبس فستاناً من الستان، لونه أبيض قصير، وقد رفعت شعرها إلى أعلى كأنه جبل وكان شفتاها مطلية بلون أحمر فاقع، ولأول مرة أراه يبتسم ومزهواً بعروسة.
ولم أعرف أن هناك زوجات بالطلب عن طريق المكاتب، إلا عندما سمعت أمي تخبر أبي بذلك وأن عروس جارنا قد أحضروها من مصر، بعد أن أختار صورتها وقام المكتب بجلبها له.
 
وقفت كثيراً أمام سريري أنا وأختي وقد تم فصلهم حتى يتم نقلهم الى بيتنا الجديد، كان وسط الحوش قد امتلئ بكل مقتنياتنا عدا تلك النبتة المتشبثة بالجدار فقد تركناها، قالت أمي قد تموت لو نزعناها من هناك.
 
غادرنا شارعنا بعد أن ودعنا جارتنا الحزينة وذكريات البيت والطريق.
 
عندما توقفت سيارتنا أمام تلك البناية، أدركت أني لن أستطيع أن أرى تلك السماء والنجوم وأنا أنام على ظهري، فلم يعد هناك ذلك المربع العاري الذي لا سقف له سوى السماء، وحتى ذلك المزراب الذي كنت أجلس تحته ليغرقني ماء المطر وهو يتدفق فوق رأسي وأفتح فمي ليتسرب ذلك الماء البارد إلى جوفي ويروي عطشي. حتى سريري قد كسرت إحدى ساقية، فلم يعد صالحاً لأن يكون هناك في الأعلى. لم أعد أرى كل شيء إلا من خلال تلك النوافذ المشدودة بقضبان وكأنها زنزانة.

مقالات ذات علاقة

أخر ثواني

صاحبة الفولكس

عزة المقهور

لا أحب البطيخ

رحاب شنيب

اترك تعليق