.
سالم الكبتي
.
عندما ولد حسين بن محمد بن حسين أحمد لحلافي سنة 1905 في المخيلي، حنوب الجبل الأخضر، كان التعليم وقتها مقتصراً على الزوايا والمدارس الدينية، والدروس الفقهية واللغوية التي يقوم بها – في الغالب – الفقهاء وحفاظ القرآن الكريم تطوعاً، وعلى أيديهم نال نصيباً من التعليم في منطقته. في محيط عامر بالعلم والثقافة، فزاوية المخيلي حيث ولد ونشأ تولى مشيختها أهله وأقاربه من آل لحلافي العائدة أصولهم إلى المغرب البعيد.
الشيخ حسين الحلافي
قبل مولد لحلافي – بعشر سنوات – تحديداً في سنة 1895، شعرت الحكومة التركية، التي تتولى الأمر، بالحرج، كما يوضح د. وهبي البوري: [جراء ازدياد عدد المدارس الأجنبية في المدن والحاق بعض أبناء ضباطها وموظفيها الأتراك للدراسة بها فسارعت بتأسيس مدرستين ابتدائيتين وأخرى ثانوية في بنغازي، ومدرسة في درنة، وأنشأت في طرابلس التي كانت، أفضل تعليماً، مدارس أخرى].
في هذا الأطار .. في هذه البيئة، في المخيلي وما حولها [بل في الوطن الليبي كله] ولقلة المثقفين والمتعلمين برز [الشعر الشعبي] صوتاً للناس واحتل موقع الصدارة وأضحت له مكانة بارزة في نفوس سكان الحضر والبادية على السواء.
كان الشعراء .. رجالاً ونساء. يؤدون بذلك وظيفة إجتماعية وإعلامية بمعايير عصرنا الحالي، وبواسطته يفصحون بكل تلقائية عن ظروفهم، ولحظاتهم الهانئة والمرهقة بأبيات سهلة مليئة بالصور الرائعة، وكان الناس يقبلون في أسمارهم ومنتدياتهم المختلفة على سـماع هذا الشعر، وأغاني العلم، والقصص والحكايات الشعبية، وسيرة الهلالية، وتجريدة حبيب … وغيرها من ملاحم لا يغيب فيها الشعر الشعبي، على أيّ من الوجوه، كان الشعر الشعبي هو لسان الحال لحلافي. بعدئذ، سيصبح من الشعراء الفنانين الذين امتلكوا ناصية الشعر الشعبي بجدارة فائقة. لقد كان، مثل غيره، إبن البيئة المعاشة وليس غريباً عنها.
الشيخ [محمد الحسين لحلافي] المتوفي سنة 1929 -والد الشاعر- كان رجلاً فقيهاً .. وعالماً، إضافة إلى أنه من رفاق المجاهد أحمد الشريف، ومن ضمن المؤسسين لدور [الظهر الحمر] جنوب مدينة درنة لمواجهة الغزو الإيطالي، ومن المجاهدين أيضاً في دور [وادي قمره] في برقة البيضا، والأبيار، ثم معسكر خولان جنوب القبة في الجبل الأخضر.
هذا الوالد – الشيخ-، سيضطر فيما بعد، للهجرة صحبة أسرته، مثلما هو الحال لكثير من العوائل والأسر الليبية إلى ما جاور ليبيا من أقطار، وستقيم تلك الأسرة في مرسي مطروح بمصر.
في سنة 1925، كان الشاعر قد وصل إلى أعتاب العام العشرين من عمره، وهناك يلتحق بالدراسة في الأزهر، ليلتقي خلالها بعديد من زملائه من أبناء الوطن المهاجرين، على إختلاف أعمارهم ومناطقهم ومراحلهم التعليمية، وهناك في [رواق المغاربة] توحدهـم الغربة، وحب الوطن المأسور في قبضة الفاشست والحنين المتواصل إليه، ومنهم : الزبير أحمد الشريف، الشاعر أيضاً والذي تساجل معه شعراً بالفصحى في الرواق، والسنوسي الغزالي، وأحمد الغزالي، وصالح بويصير، وعلي صفي الدين السنوسي، وعلي مصطفى المصراتي، وحسن السوسي، وعبد ربه الغناي، ومحمد الصابري . وعلي فرهود، ورجب عبيدة، ومراد عبد السلام، وعلي زاقوب، وغيرهم، ثم مع بوادر إندلاع الحرب العالمية الثانية وتشكيل القوة العربية الليبية يترك الدراسة، مع بعض منهم، وينضمون إلى تلك القوة ليتم إختياره إماماً لأحدى كتائبها المقاتلة.
في شبابه برع لحلافي، في نظم الشعر [الشعر العاطفي] .. فأخذ بأسبابه وتعلق به كثيراً، وأشتهر [بمجاريده الطويلة] التي ذاعت في هذا السياق الجميل في أفراح الليبيين المهاجرين و [أولاد علي] القاطنين في مطروح وما حولها.
من ذلك :
مرحبتين أهلاً يا غالي .. وقتاً ما صبيت قبالي
حسّيت انّه يزهى بالي .. ننسى موال التفكير
– أو:
عدّا مول الدور اسفّى .. ناقش كفا .. نجع أجواد الكافر لفا
– أو:
تقول في الغطا مكتوب يخطر عزيز ساعات نومها
يخطر زوله .. مولى الحداجه لاورا مجدوله
من طول ياسهم تمت تموج ملوله
والعين في زمان الموح، تما حساب يومين يومها
إلى آخر القصيدة، وهى طويلة .
غير أن ظروف وطنه المحتل وظروف هجرته وهجرة الكثير من الليبيين وتشتتهم في مختلف الأقطار، جعلته يقصر شعره الشعبي فيما بعد على الجانب الوطني وتزامن ذلك مع نظمه الشعر الفصيح، وان كانت شهرته – في الشعر الشعبي – طغت عليه في واقع الأمر.
ربما سيعود لحلافي – في مرحلة لاحقه – وهو الشيخ والشاعر، إلى بعض موضوعات الغزل، وإنما على استحياء وخجل كبيرين، ورائده في ذلك شعر بعض الفقهاء والعلماء الذين كانت لهم بعض التجليات مثل الفقيه ([عروة بن أذينه] .. وسواه.
كان شعر لحلافي الوطني يجد صدى واسعاً لدى المهاجرين، ويتردد أيضاّ في الداخل .. يقتحم الأسوار التي أقامها المحتل الإيطالي، ويعيش في صدور أبناء الوطن وتردده شفاههم على الدوام، وفيما أضفت [الهجرة] على تجربته الشعرية أبعاداً غاية في العمق والجمال فقد ظل لحلافي [شاعر المهجر] في تلك الفترة بلا منازع، وأجاد إجادة تامة في التعبير بشعر الشعبي عن مختلف القضايا والموضوعات الوطنية، ولم يتوان عن النضال ومقاومة العدو بالكلمة من وراء الحدود، ورغم كل الشعر الذي قيل في تلك الأعوام إلا أن شعر لحلافي ظل يتميز بخاصية معينة يلمحها الناقد والدارس لشعره بسهوله ويسر وهى التشبت المتواصل بأمل العودة إلى الوطن وإنكسار العدو الإيطالي في وقت تقطعت فيه السبل وتشابكت الدروب وأصيبت بعض النفوس بالقنوط واليأس خاصة إثر إعدام الشهيد عمر المختار.
في شهر يوليو 1943 يعود لحلافي إلى وطنه ليواصل نضالاً من نوع آخر : فقد التحق بالتعليم في مدينة درنة، وأخذ ينشر شعره في الصحف والمجلات الصادرة آنئذ: بنغازي، برقة الجديدة، ومجلة [عمر المختار] و [الفجر الليبي]، وتذاع له القصائد في بعض الإذاعات، ثم ينتقل إلى سلك القضاء ويشتغل في مناطق طبرق واجدابيا ويستقر في البيضاء بعد تقاعده إلى وفاته في 8/8/1974.
إن سيرة لحلافي إنساناً وشاعراً في المهجر وفي وطنه تعطينا أحسن الأمثلة لمعاني العفة والكبرياء والاعتزاز بكرامة النفس، فكانت ذاته تنعكس على موضوعه في كل الأوقات وتحت جميع الظروف، والدعوة موجهة للمهتمين بالشأن الثقافي الليبي أن ينتبهوا إلى قيمة الشاعر في مئوية ميلاده التي تمر هذا العام [1905-2005].
عن موقع جيل ليبيا