.
د. فرج نجم
.
لعل أشهر أبطال الملاجئ في ليبيا إبان الاحتلال الإيطالي كان الطفل إدريس علي امغيب اللواطي {من قبيلة العواقير} في منطقة بنغازي، الذي أدخل إلى معتقل العقيلة في سن السابعة مع أسرته المكونة من أمه فضيلة، وأخيه جبريل، وأخته عائشة، ضمن خطة إيطاليا القاضية بإيداع أسر المجاهدين في معتقلات صحراوية مهلكة، وذلك للضغط على حركة الجهاد.
نقل الطفل إدريس إلى الملجأ بعد أن مات جميع أفراد أسرته من المرض والجوع بمعتقل العقيلة، وكان والده علي امغيب اللواطي مجاهدا حضر الكثير من الملاطم أشهرها يوم القرضابية، التي اجتمعت فيها قبائل ليبيا المجاهدة وهزمت القوات الإيطالية هزيمة نكراء عام 1915م، وقد استشهد الوالد علي قرب “الشبردق” (الأسلاك الشائكة) على الحدود المصرية الليبية، عندما كان بصحبة الشيخ القائد عبد الحميد العبار، حيث كان المحافظية (المجاهدون) يقاتلون ببسالة معركتهم الأخيرة، بعد إعدام شيخ الشهداء عمر المختار في 16 سبتمبر 1931م.
وجد الطفل إدريس نفسه في الملجأ – يعرف بالإيطالية ب الكوليدجو – بمنطقة المقرون، يدرس اللغة الإيطالية، ويتدرب على أعمال الكشافة الإيطالية – تعرف بالإيطالية ب الباليلة – مع أترابه من أبناء الشهداء. وكتعويض عن حنان الأسرة الذي حرم منه صغيراً، انغمس الطفل إدريس في تعلم اللغة الإيطالية، وإتقان النشاطات الكشفية، حتى أصبح في سن التاسعة رئيساً لفريق الاستعراض الكشفي بالملجأ. أما حبه الكبير فقد كان لبندقية صنعها له مدرس التربية المهنية من الخشب كانت لا تفارقه طيلة يومه.
عندما زار ملك إيطاليا امانويل، صحبة الماريشال دي بونو، والجنرال غراتسياني، ملجأ المقرون في الأول من يونيو عام 1933م، والجنرال غراتسياني عرف ب “سفاح ليبيا” لما قام به من جرائم وحشية توجها في ليبيا بإعدام رمز الجهاد عمر المختار، فإلتقي الملك بالطفل إدريس، الذي كان يقود فرقة الاستعراض الكشفي، حاملاً بندقيته الخشبية لتحية الملك ومرافقيه. وقدم مشرف الملجأ الطفل إدريس كنموذج حي على دمج الليبيين في الثقافة الفاشيستية، حيث كان يتحدث الإيطالية بفصاحة تثير الدهشة بالنسبة لعمره، ويحفظ الشعر الإيطالي عن ظهر قلب. وعندما انتهى الملك وغراتسياني من الاستماع إلى مجموعة من القصائد والأناشيد الإيطالية التي كان يرددها الطفل من ذاكرته، أمر غراتسياني – أمام الصحافة من باب الدعاية المغرضة – بإعطاء الطفل إدريس جائزة قدرها 50 فرنكاً، وما أن مد إدريس يده ليستلم النقود حتى بادر غراتسياني بسؤاله عن أمنيته، وعما سيفعل بالنقود، فأخبره الطفل بالإيطالية بأنه يريد شراء بندقية حقيقية بدلا من بندقية الخشب، ويقتل من قتل أباه. فسأله غراتسياني بخبث عمن قتل أباه. هنا تدخل معلمه، عبد الرازق شقلوف، وهمس باللغة العربية قل لهم: المحافظية.. المحافظية، أي يقصد المجاهدين.
هذه البراءة لم يفهمها غراتسياني ورهطه، إلا في الحرب العالمية الثانية، عندما تحين الشاب إدريس على الفرصة، إثر دخول قوات الحلفاء بقيادة بريطانيا إلى بنغازي، حيث انضم إلى مجموعات من شباب المدينة التي كانت تهاجم فلول الطليان المنسحبة، وتثأر من جرائمهم. وبعد أشهر قليلة انضم إدريس لقوات جيش التحرير الليبي، الذي كان يعرف بالجيش السنوسي، الذي كان يقاتل إلى جانب الجيش الثامن البريطاني، حيث شارك إدريس في معركة حصار طبرق، والزحف على بنغازي لتحريرها من قتلة والده وأسرته.
إثر تحرير ليبيا منح إدريس علي وسام ميدالية جيش التحرير السنوسي من قبل الأمير إدريس السنوسي، وكذلك وسام نجمة شمال أفريقيا من ملك بريطانيا.
وقد تغناه شاعر الوطن، أحمد رفيق المهدوي، في قصيدة مسرحية رائعة اسماها “الغيث الصغير”، حيث استبدل اسم إدريس بغيث، لما لأسمه – إدريس – من تبعات وتداعيات سياسية بالأمير إدريس السنوسي، يعاقب عليها الفاشست، إذا ما ذكرت أو حدثت. فقال أحمد رفيق المهدوي واصفاً لقاء الملك بالغيث الصغير:
جاء يستعرضهم ممتحناً
وهو يختار غلاماُ فغلاما
ما رأى فيهم كغيث إذ رأى
من ذكاء عجباً فاق الأناما
خاطب الطفل ملياً فرأى
رابط الجأش فصيحاً لا كهاما
قال هذا عبقري فارفعوا
قدره أني سأعطيه وساما
.. .. ..
قال: خذ يا غيث هذي مائة
لك لا تسرف وكن فيها قواما
قال: يا مولاي سمعاً أنني
سوف أبقيها وإن كانت حطاما
.. .. ..
قال: ما تصنع يا غيث بها
قل لي الحق ولا تخش ملاما
.. .. ..
قال: غيث وبدأ الجد على
وجهه يشبه ليثاً أو قطاما
إن لي ثأراً إذا أدركته
لا أبالي بعد أن ذقت حماما
لو تحصلت على مال به
اشتري عدة حرب وحساما
أدرك الثارات ممن قتلوا
والدي إني أريد الانتقاما
هو منشودي من الدنيا التي
لي ساءت مستقراً ومقاما
*عن موقع جيل ليبيا