“إذا اردت سلامة الرأس والجسد، فعليك بسلامة الروح” هكذا تحدث أفلاطون منذ أكثر 2500 سنة. الطب الحديث اكتشف الآن هذه الحقيقة، وانتبه العلم إلى أن المعتقد الديني هو الذي يثري الروح ويحافظ على سلامتها، وبسبب ذلك ألحق العلم رجل الدين إلى الطبيب المعالج صحبة العلماء النفسانيين. ولقد أثبت رجال الدين الدارسون لعلم النفس القدرات العجيبة التي يحققها علاج الروح في شفاء البدن من أوجاعه. صار علاج الروح الحليف الأقوى للطب الحديث. لم تعد مهمة رجل الدين أن يرهبك من الآخرة، ويحببك فيها بالحوريات. أصبح الله يهديه إلى العلة النفسية ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ فيساعد المريض في علاج الروح فتشفى الأبدان.
“ريتشارد يونج” أراد له أبوه أن يكون رجل دين، فشب مقتنعا بهذا العمل، ولكن انحرف في شبابه، ترك دراسته ليصبح سكيرا، مشاكسا متشردا بين مختلف الأعمال، غير أن بذرة الخير الإنسانية فيه لم تمت، لقد تفتقت، فانتبه أن الله أراد له أن يرى البشر بعيونهم فلم يجتز عقده الثالث، في أربعينيات القرن الماضي، حتى استقر زوجا صالحا، وعاملا ناجحا، وما لبثت بذرة الخير إلاّ وجهته ثانية نحو الدين، ولكنه لم يرتدِ له زيا يميزه عن الناس ولم تقتصر حياته على ترديد ما يحفظه من كلام كتابه المقدس من فوق المنابر، ثم يطويه، ويعود متصدرا وجبة يوم الأحد الشهية وشرابها المعتق. قرر أن يكون قريبا من المرضى في المستشفيات، واستطاع أن يتحصل على غرفة مظلمة في ركن مظلم، وسط سخرية الأطباء في مستشفى(الجين) للأمراض العقلية بولاية (الينوي).
كان يقابل سخرية أطباء المستشفى منه بابتسامة عندما يسألونهم: “هل أنقذت اليوم بعض الأرواح.. يا مرشد السماء”. ولكن لا السخرية ولا اليأس أحبطا همته. كان ينصت للمرضى والابتسامة تغمر وجهه، كانوا يرفضون الحديث معه، ولكنه يقابل صمتهم بابتسامة وصبر. من دون أن يتفوه بكلمة واحدة كان يحييهم ويجلس بجوارهم فقط، أما إن تحدثوا اليه فينصت بجوارحه كلها إلى أن يجد كلمة صائبة يقولها لهم.
كان بالمستشفى عالم رياضيات أصيب بخلل عقلي، لا يتحدث حتى لوالديه، يجيب فقط إن سئل. ذهب إليه في غرفته وحياه وجلس بجواره أكثر من ساعة، بعدها نهض، وقال للمريض: “حسنا سأراك مرة أخرى”. جاءت أمه إلى مدير المستشفى، مبتهجة وأخبرته أن ابنها قال لها: “لقد أحضروا له قسيسا جديدا، كل ما يفعله هو أن يجلس بجوارك، ولا يجبرك على الحديث أو الإنصات لثرثرته” واستطردت: “أنت لا تعلم أنه لم يقل لأحد شيئا منذ عامين. إنه لا يتحدث أبدا، وإجاباته مقتضبة على قدر السؤال”. ورفضت زوجة أن تُشرح جثة زوجها، وحاول أطباء المستشفى بالسبل كافة ولكنهم لم يفلحوا، اقترب منها صاحبنا بهدوء وأخبرها أنهم لن يعرفوا سبب موته إلاّ بالتشريح.. إنها للأسف الشديد وسيلتهم الوحيدة لمعرفة إذا كان سبب موته وراثيا، لأن هذه المعرفة قد تساعدهم على إبعاد الخطر عن أطفاله.. “فوافقت في الحال.
وفقدت سيدة جنينها في حادث سيارة، وأصيبت بجروح ليست خطيرة درجة الموت، ولكنها لم تستجب تماما للعلاج، فلقد كانت تسعى نحو موت بطئ، وتمكن معالج الروح من الوصول إلى معرفة أن الجنين كان ثمرة علاقة خارج نطاق زواجها، فلم يعاتبها أو يوبخها أو يرهبها ولكنه بين لها أن السماء تريدها أن تعتبر، وأن تولي اهتمامها لزوجها وأطفالها الثلاثة، وبالفعل تحسنت صحة المرأة، وشفيت تماما وأصبحت أما وزوجة وفية مخلصة.
لقد تمكن القسيس (يونج) من تأسيس مدرسة دينية نفسية أخذت على عاتقها سبل معالجة الروح فساهمت فعلا في شفاء الكثير من المرضي متخذين مبادئ أهمها أنك تساعد الناس بدءا من الإصغاء إليهم بعطف، من قبل أن تبدي لهم أية نصيحة، مؤكدا لهم أن مهمة رجل الدين أن يكتسب ثقة المريض لا أن يرهبه من العقاب أو يغريه بالثواب. المهمة الرئيسة أن تنصت إليه كإنسان يحتاج لمن يأخذ بيده، وأن فن الإصغاء يشجع المريض على الاعتراف وإفراغ ما يحتفظ به من أفعال مشينة في أعماقه يتفاقم عذابها كلما ثابر على دفنها، لأن المريض بعد أن يفرغها لأذان صاغية متعاطفة سوف يرتاح من عبء إخفائها وعندها سوف يتقبل نصائحك وعلاجك.
الخلاصة هي أن فن الإصغاء، وليس فن الخطابة هو ما يساعد على شفاء الروح.
__________________-