(1)
ما الذي يمنح مجموعة من الناس هوية جماعية؟ متى وكيف تتشكل الهوية الوطنية لمجموعة ما؟ لعل سؤال الهوية وإشكالياتها لم يشغل كاتباً ليبياً بالقدر الذي شغل الكاتب محمد محمد المفتي، وانعكس على مجمل كتاباته. فمبكرا تساءل محمد: ما الهوية؟ وعلى الرغم من أنه كان يعني بها الانتماء للمكان وللجماعة وللوطن، إلا أني أرى في جانب منها هواجس ذاتية وتعبيراً عن أزمة جيل، عانى صراعاً حاداً مع هوية الفرد والجماعة، ومع توابع انفتاح غير مسبوق على عالم يعج بالهويات المتصارعة. فهل تكرار الحديث عن الهوية بهذه الحدة تعبير عن هواجس الوطن أم الكاتب أم كليهما؟
(2)
غاص سؤال الهوية عميقاً في ثنايا الثنائيات. فنجده تارة بين الأنا والآخر، بين التذكر والنسيان، بين الفرد والجماعة، بين الماضي والحاضر، بين الحاضر والمستقبل، وتارة أخرى بين الحداثة والمحافظة، بين القديم والجديد، بين النكوص والتقدم. سؤال الهوية هو سؤال عن كينونة البشر،عن أدوارهم، هو سرد الذاكرة لمفردات عبورهم واستيطانهم لزمن ما. هو حاضر وباق ما بقى البشر: “من نحن؟ ومن هم؟”. هو البحث عن الذات وإعادة إكتشافها عبر تجدد الوعي بها.
(3)
كانت الحرب العالمية الثانية تشرف على نهايتها، وقوات المحور بشمال أفريقيا قد استسلمت لقوات الحلفاء، والارتياح المشوب بالقلق يعم مشرق ليبيا، عندما رُزقت عائلة المفتي بأشهر أبنائها وأكثرهم تفرداً والتصاقاً بالشأن العام. ولد محمد سنة 1943 بمدينة درنة، ذاك المركز الحضري القابع بقلب الجبل الأخضر، والذي شكلت هويته هجرات متعددة لعائلات من الأندلس ومن غرب ليبيا، وتميزت المدينة بالتجارة والعلم وبعلاقة مربكة مع محيطها، تتأرجح بين انفتاح وتوجس، وبين عزلة محسوبة وطموح قيادي، ما أورثها قلقاً دائماً، وسعياً حثيثاً لفك شفرات الاستقرار، أورثته هي في غالب الظن لوليدها الجديد. كان عين القلق الذي وجد تعبيراً له في التفرد، وفي الإنتاج الثقافي المميز، في الصدامات مع السلطة الناشئة، وفي الترحال إلى أماكن أخرى. وهكذا كانت لدرنة كما لمحمد سيرة أبرز ملامحها السعي الدؤوب للتماسك، الحفاظ على السمات، وكبح إغواء الذوبان خارج محيطها.
(4)
لم تعد بنغازي في عقود الاستقلال الأولى بلدة صغيرة، فقد نمت بشكل سريع، وتحولت إلى مدينة تزدهر بالحياة وبالمتناقضات، التي عمق من حدتها اكتشاف النفط، وما ترتب عليه من انفتاح غير مسبوق على الآخر. صارت المدينة تعج بالقادمين من كل صوب، بحثاً عن لقمة عيش أو فرص أفضل أو تحقيقاً لحلم ما. فالعروبة بخطابها الناصري، وأوروبا ببريقها وجوارها والأفكار اليسارية والدعوات الإسلامية والتطلعات المادية، كلها امتزجت لتشكل خلفية لصراع جيل مع سلطات عجزت عن فهمه وعجز هو عن تقديرها. لم يكن محمد الذي انتقل مع أسرته الى بنغازي سوى تعبير صادق عن ذلك الجيل.
إن الانتقال إلى مدن جديدة أكثر تعقيداً من مجرد تغيير عنوان أو رفقة صحاب، أو تجديد مكان؛ هو اكتشاف وإعادة اكتشاف؛ هو تلاشٍ لصفات وعلاقات وانبعاث لأخرى، فالغربة تفرز انسلاخ تدريجي عن هويات سابقة، وتولد قلق سيرافق طبيب المستقبل، ويتعزز بشكل طبيعي في عاصمة القلق الليبي. لم يستسلم محمد لإغواء التميز والتواصل المكثف، الذي ميز سكان درنة بمدينة بنغازي، بل بدأ تفرده بانفتاح أكبر على المحيط، قاده فيما بعد إلى تكوين علاقات وصلات وروابط أبعد بكثير من حدود المكان أو تضاريس الجماعة. ففي بنغازي تطور لديه شغف غير عادي باكتشاف العلاقة بين الناس وهوياتهم والأماكن، عبر عنه بمجموعة من الكتب، رصدت التاريخ الاجتماعي لكل من بنغزي ودرنة والمرج وطرابلس وزلة وجبل نفوسة. هذا الانتاج منحه فيما بعد الفرصة ليرسم بكلماته وقصصه وسهاريه ملامح هويات عصر مضطرب، وليؤكد هواجس الهوية التي شكلت جل كتاباته وحياته.
(5)
بفضل تفوقه في الدراسة تحصل المفتي على منحة لدراسة الطب في بريطانيا. بريطانيا التي كانت تمثل آنذاك أقبح وجوه الاستعمار والتآمر والخبث السياسي، وتمثل، في الوقت نفسه، الإدارة والانضباط والعصرنة والعقلانية والتعايش والصراع بين الأديان والمذاهب والأعراق والقوميات. كانت الجزيرة تشاهد بقلق وارتباك شديدين تقلص نفوذها ومساحة إمبراطوريتها بشكل متسارع، حتى أن صحيفة التايمز اللندنية توقفت عن استعمال مصطلح الأخبار الامبريالية والأجنبية، واستبدلته بأخبار ما وراء البحارـ اعترافا منها بتبدل الحال. كانت القارات الثلاث (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية) تعيش آنذاك حالة من الصراع السياسي والعسكري الحاد، فمرحلة التحرر الوطني والنزعة الاستقلالية قد استعرت نارها في المستعمرات السابقة، وكان التأكيد على الهوية الوطنية والتمسك برموزها وشعاراتها هاجس يسكن المثقف الوطني، ولو رمت به المقادير إلى القارة ذاتها التي ولد وترعرع فيها الاستعمار بشكله العصري الحديث. التبست في روح الغريب الأسئلة ذاتها، وإن وجدت لها تعبيرات جديدة، والتهبت في النفس نزاعاتها، حتى أصبحت موزعة بين شطرين: وطن صار غربة، وغربة عجزت عن أن تكون وطناً.
اكتسب سؤال الهوية أبعادا ومفاهيم وإشكاليات جديدة في الغربة، وازدادت حدته بالتفاعل والصراع والتوافق مع الآخر، فسؤال الهوية لا يكتمل إلا باكتشاف الآخر، وبمعرفة من هو وماذا يريد منا، وباكتشاف الاتفاق والتباين بيننا وبينه، ومن ثم إعادة التوازن للذات. لذا فقد اكتسب سؤال الهوية لدى المفتي بعداً حداثياً، ودفع بقلقه ووعيه نحو البحث عن إجابة للسؤال الذي لا يغيب “كيف تخلفنا وتقدموا؟”.. فكان جوابه توطين العلم.
(6)
اكتمل التغريب في رحلة المفتي بتجربة العزل القسري وصدمة الوطن، الذي تقلص فصار قضبانا وزنزانة. تضاعفت الغربة بتقلص المكان إلى رقعة كان الموت والألم والقسوة ملامحها ومبدأها ومصيرها ومنتهاها. وكان الزمن لا يبدأ ولا ينتهي. شكل السجن ساحة اكتشاف هائلة. كان فيه متمردون ومغامرون وحالمون ومناضلون، جسدوا المجتمع بكل تناقضاته، ومزجوا بعين المكان حيواتهم وأفكارهم وانحيازاتهم وأحلامهم وخيبات آمالهم. شعر الجميع رغم اختلافاتهم بعمق التشابه فيما بينهم.
حفر السجن أبعاداً في الذاكرة، وساهمت التجربة في إعادة اكتشاف أخرى للذات والآخر والتاريخ والوطن. صار الغريب ليس ذاك الغازي القادم من رواء البحار، ولا العدو القادم من عمق التاريخ، وإنما حاضر أفرزته تبدلات هائلة وسريعة في بنية مجتمع لم تتماسك هويته بعد. اكتست الغربة في هذا المكان أبعاداً حقوقية، تبدت في إشكالية المواطنة وغياب حقوق الإنسان وغربة الوطن والمواطن، كما سترويها لنا كتابات المفتي فيما بعد.
(7)
لعلها من سخرية الأقدار أن تمضي السنون بنا لتكشف لنا خط سيرها الدائري، وتماس نقطتي البداية والنهاية، فالأسئلة لا تزال ذاتها، وإن أعيت العقول الأجابات،والبحث عن الهوية وملامحها يبدو الآن أكثر إلحاحاً مما كان عليه في منتصف القرن الماضي، بعد تجارب أربعة عقود قاسية، وتفكك السلطة المركزية، وما نتج عنه من إشكاليات جهوية وقبلية وإثنية. أسئلة تعود بنا إلى الصديق المفتي، وتدفعنا إلى التمعن والتأمل في رحلة شكل مفرداتها في كل محطة سؤالنا الأبدي … سؤال الهوية.
_______________________________________
* ولد محمد محمد المفتي بدرنــة عام 1943، انتقل مع اسرته الى مدينة بنغازي واتم دراسته الثانوية بها عام 1960 حيث تحصل على الترتيب على مستوى ليبيا. تم ايفاده فدت لدراسة الطب في بريطانيا،وتخرج عام 19688 من جامعة ليدز. وعمل طبيبا في بريطانيا والبيضاء وبنغازي. اعتقل إبان زيارة إلى الوطن عام 1973 وبقى في السجن حتى عام 1984، يعمل حاليا يعمل أخصائي جراحة عامة. ومن اهم كتبه:
– هدرزة في بنغازي.. هوية المكان.
– غمق زلة: دراسات واحتفاء بعطاءات مبدعين ليبيين.
– هدرزة في السوق.
– الايام الطرابلسية.
– سهاري درنة.. التاريخ الاجتماعي للمدينة.
– ع الكورنيش.. مشاهد من المجتمع والثقافة 1941-1961.
– هذا الوطن الذي يسكننا.. روافد الهوية الوطنية.
– السعداوي والمؤتمر بين التمجيد والنسيان.
– العين والانامل.. المنهج والممارسة في الطب العربي الإسلامي.
– زمن المملكة.