يقول الشاعر محمد عبد الله:
ثلاثة لا أقرأ لهم :
الذي يكتب عن زقزقة العصافير
والذي يكتب عن الثورة والثوار
والذي يقول أنا شاعر.
وأنا أقول قراءة على ما قال:
فأما الكتابة عن زقزقة العصافير، فهي أقبح أنواع الخيانة، لأن الزقزقة إذا كتبت ماتت، وإذا رُسمت مُحيت، وإذا تُرجمت فقدت أنغامها وألحانها.
زقزقة العصافير تُسمع ولا تُقرأ.
تُعزف ولا تُكتب.
تُلحن ولا تُخط.
فالحبر لا صوت له!
زقزقة العصافير هي لغة كونية، فلا تصح ترجمتها.
زقزقة العصافير مشاعر وليست حروفاً.
نبضٌ وليست قلوباً.
موسيقى وأنغام وليست آلة موسيقية.
وأما الكتابة عن الثورة والثوار فلا تصح..
ذلك لأن الكتابة إنجاز يتحدث عن إنجاز، أما الثورة فما هي إلا هدمٌ يعقبه هدم، وتدمير يتلوه تدمير، وتخريب إثر تخريب.
فالكتابة قانون.. والثورة تعطيل للقانون، والكتابة نظام.. والثورة عشوائية الانفلات،وانفلات العشوائية.
والكتابة عقل ووعي..والثورة هيجان وثوران وانفجار لا علاقة له بالعقل والوعي.
والكتابة فعل، والثورة رد فعل.
وأدوات الكتابة قلمٌ وأوراق، أما أدوات الثورة فبندقية ورصاص.
والكاتب عن الثورة والثوار هو كطبَّال حرب، أو ككلب قافلة، أو كساقي خمر، أو كزمار في عزاء، أو كراقصة في دار عميان.
وأما من يقول بأنه شاعر، فهو أبعد الناس عن الشعر، ذلك أن صفة شاعر يمنحها الشعر للشاعر، أو بتعبير آخر؛ يكتسبها الشاعر من شعره، فيصير الشاعر شاعراً بموجب قرار من قصائده، وبشهادة من أبياته، وبحكمٍ من حروفه وقوافيه.
فلا يكون بعد هذا كله بحاجة لأن يصرخ في آذاننا، أو يكتب على جبينه أو في صفحته على الفيس بوك، أو يُعلن في الصحف والمجلات بأنه شاعر، بل ينام ملء جفونه عمَّا يكتب ويترك الخلق يختصمون في شوارده، دون أن يجرؤ أحد منهم على إنكار شاعريته أو النيل من إبداعه.
إنَّ الذي يُخبر الناس بأنه شاعر هو شخص قَصُر به شعره، وتقلصت عنه موهبته، وتراجع عنه إبداعه، فهو كرجل خارت قواه وقلت حيلته وعجز أن ينقذ نفسه، فاستنجد الناس واستصرخهم ودعاهم لإنقاذه ونجدته.
فالشخص الجميل لا يكتب قبل اسمه كلمة جميل، والإنسان الراقي لا يُخبر أحداً بأنه راقٍ، بل يترك الناس يقولون ذلك نيابة عنه.
ذات يوم عُرض عليَّ ركامٌ من السِيَر الذاتية قبل تقديمها لرئاسة الوزراء، فوصلتُ الليل بالنهار لمراجعتها. أكثر من 40% من هذه السير ذَكَر أصحابها أنهم وطنيون. أعترف بأن هؤلاء الوطنيين قد وفروا عليَّ جُهداً كبيراً، فقد كنت أستبعدهم فوراً، ولم أقدم سيرهم.
قبل أن أنسى؛ وددت أن أخبركم بأن الشاعر محمد عبد الله له مقدرة عالية على الاختزال، فهو قادر على اختزال مجرة بأكملها في كرة تنس!. ولكن.. ما الرابط بين الكتابات الثلاث؟! الكتابة عن زقزقة العصافير، والكتابة عن الثورة والثوار، وكتابة من يصف نفسه بأنه شاعر.
في اعتقادي أن الرابط هو الخيانة!
الخيانة بترجمة ما لا يُترجم.
والخيانة بالثناء على الهدم واستمراره.
والخيانة بالانتحال، والادعاء، ومدح النفس!.