فايز علام
لا يغادر “إبراهيم الكوني” في روايته الجديدة “ناقة الله” عالمه الأثير: الصحراء، التي كتب عنها كل رواياته السابقة، ولا يتخلى عن أسلوبه الذي عُرف به، حيث السرد الممتلئ بالتساؤلات والتأملات الفلسفية، والمكتوب بلغةٍ تصرّ على أن تُدهش قارئها، في ما تختزنه من دلالات، ومن جمالياتٍ بلاغية وروحٍ صوفية.
الشخصية المحورية في الرواية هي ناقة، وهذه ليست المرة الأولى التي يجعل فيها “الكوني” من حيوان بطلاً لروايته، فالصحراء التي يكتب عنها تجعل من علاقة الإنسان بالكائنات الأخرى التي تتقاسم معه المكان وظروف العيش، علاقةً متشابكة. وهكذا هي علاقة “أسيس” بناقته التي أطلق عليها اسم “تاملالت” أي الجاموس البري بلغة الطوارق، “يكاد يجزم أنه نسي أنها بعير أصلاً وهو الذي لم يعرف لنفسه خلاً سواها، ولم يجد لنفسه مخلوقاً يفهم له منطقاً غيرها. بلى! بلى! المهم هو المنطق. الأهم من كل شيء هو المنطق. وقد أنساه منطق المخلوق الذي يسمّيه أبناء الصحراء ناقة كل منطق آخر. أنساه منطق الإنس والجنّ والطير (…) منطق تاملالت أمّ كل منطق لأن ذخيرته ليست اللسان أو الصوت. ذخيرته ليست العبارة ولا حتى الإشارة، ولكن سلاحه هو الأقوى لأنه… الصمت!”.
تدور أحداث الرواية في فترة الستينيات من القرن العشرين وهي حقبة تاريخية مهمة في حياة قبائل الطوارق، إذ قُسمت “تينبكتو” مملكة الطوارق بين أربع دول هي ليبيا والجزائر والنيجر ومالي، وفقاً لمصالح فرنسا التي كانت تحتلها، وبسبب ذلك هُجّر عدد كبير من الطوارق من وطنهم الأصلي، ليعيشوا فصول الشتات والاغتراب، “تلك كانت مكافأة المحتل لأمة استعبدها قروناً فقدّم لها وطن الملثمين هدية، لأنهم آثروا أن يموتوا أحراراً على أن يعيشوا تحت رايته عبيداً”.
تتناول الرواية المذابح التي ارتكبها بالطوارق “موديبوكيتا”، أول زعيم لجمهورية “مالي” بعد حصولها على استقلالها، إذ قاد حملةً شرسة ضدهم، فسجن قسماً، وقتل قسماً آخر. وأصبح قسم ثالث في عداد المفقودين. وكيف أنهم أصبحوا غرباء في أرضهم، وصار لزاماً عليهم أن يقدموا برهاناً على انتمائهم إليها وثائق ثبوتية لا يملكونها، وأن يدفعوا كل ممتلكاتهم مكوساً ويحمدوا الله أنهم لم يخسروا حياتهم أيضاً. “أضحت المطالبة بالهوية الثبوتية من أناسٍ كانوا منذ الأزل أطيافاً في أكبر أوطان الأرض مساحةً ذريعة للإيقاع بالقوافل، وسبباً قانونياً لإيداع أصحابها في السجون بعد مصادرة أرزاقهم”.
وفي خضم ذلك، يطرح “الكوني” أسئلةً عن الله، وعن عدالته الإلهية أمام الموت الذي يعمّ الصحراء، ويقتفي أثر كل ملثم لينحَره، “بأي حق تجازي العدالة الإلهية أناساً كل ذنبهم أنهم أحبوا الله وفرّوا به من السواحل، ومن الواحات، ومن الممالك كلها، إلى أقسى صحاري الدنيا، ليختلوا بالله في البرية ليعبدوه في الحرية؟”.
القضية الأبرز التي تناقشها الرواية هي الحنين إلى الوطن المفقود، فالناقة “تاملالت” تتوق إلى ذلك الوطن الذي ولدت فيه، أمضّها الشوق، وأضناها الوَجد. وصارت تصارع كل شيء كي تعود إلى “الفردوس المفقود”، لكنها كانت أشجع من “أسيس” صاحبها الذي لم يتجرأ على العودة، هربت منه، متجهةً صوب مستقر القلب، ولم يحتج هو إلى الكثير من الذكاء ليدرك وجهتها، فمضى في إثرها، في رحلةٍ فجّرت أسئلةً موجعة عن معنى الوطن، والانتماء، والمنفى، والاغتراب، وذلك السرّ الغامض في شعور الكائن الحيّ تجاه المكان، “ولكن شيئاً يسكننا، لا بدّ أن يستيقظ فينا ليستنكر حجّتنا. شيئاً لا اسم له، ولا لسان له، ولا كيان له، ولا يعترف بمنطق ولا برهان، لأنه نداء. إنه النداء الذي لا يعترف بالأرض ما لم تكن أرضه، ولا بسماء ما لم تكن سماءه، ولا بنجوم سوى نجومه، ولا بشمس ما لم تكن شمسه، ولا بروح ما لم تكن روحه، لأنه في الحقيقة هو الروح التي تسكننا، وتشدّنا إلى هذا المكان وليس ذاك المكان، إلى هذه الأرض وليس إلى تلك الأرض، إلى هذه السماء وليس إلى تلك السماء”.
تمتلئ الرواية، كما كل روايات إبراهيم الكوني، بمفردات الصحراء التي تشكّل عالمه الأثير، فالحيوانات والنباتات والوديان والرمال وهبوب الرياح واتجاهاتها، والنجوم والسراب والأساطير، كلها تتشابك في سردٍ بديع يحتفي باللغة التي تتسرب من بين يديه ذراتٍ من الشعر.
_______________________________
نشر بموقع رصيفـــ22
إبراهيم الكوني روائي ليبي، من مواليد غدامس 1948. حاصل على الماجستير في العلوم الأدبية بمعهد غوركي للأدب العالمي في موسكو. ترجمت كتبه إلى أكثر من أربعين لغة. حائز بضع جوائز عربية وعالمية، منها جائزة الدولة السويسرية الاستثنائية الكبرى على مجمل أعماله المترجمة إلى الألمانية عام 2005، وجائزة الرواية العربية في المغرب 2005، وتمّ اختياره ضمن القائمة القصيرة لجائزة “المان بوكر الدولية” لعام 2015.
له ثمانية وسبعون كتاباً، في القصة القصيرة والرواية والمتون والمذكرات والمؤلفات النظرية. ومن رواياته: “التبر”، “نزيف الحجر”، “المجوس”، “واو الصغرى”، “الورم”. ومن كتبه: موسوعة “بيان في لغة اللاهوت” في سبعة أجزاء، ومذكراته “عدوس السُّرى” في ثلاثة أجزاء.
الناشر: دار سؤال – بيروت
عدد الصفحات: 286
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات