المقالة

من كواليس الفيس بوك!

اعترض طفلٌ أميركي أسود باراك أوباما، في إحدى جولاته الإنتخابية لفترةٍ رئاسيةٍ ثانية، وسأله قائلاً: “مستر أوباما، أريد أن أكون مثلك، رئيساً للولايات المتحدة الأميركية فبماذا تنصحني؟”. رد أوباما بسرعة وعفوية: “لا تفتح حساباً على فيس بوك!”.

أما فيليس هاملتون، القاضي الفيدرالي في مدينة أكولاند بولاية كاليفورنيا، فقد قال في محكمته بمناسبة قضية مرفوعة أمامه على فيس بوك: “يجب التحرك بشكل جماعي، ومقاضاة فيس بوك عن الإنتهاكات الخطيرة، التي يقوم بها على رسائل مستخدميه”.

أما ماكس شريمر، الذي خاطب إدارة فيس بوك، مُطالباً إياها بتسليمه كافة البيانات المأخوذةٍ عنه، والمحفوظة في خوادمه ثم إعدامها بعد ذلك، فقد استلم 1222 ورقة، ولم تكن في الحقيقة هي كل المعلومات المحفوظة عنه، بل هناك المزيد والمزيد مما لم يسلّم إليه.

• ما الذي يجري بالفيس بوك؟!

موقع فيس بوك، لم يعد من سنوات “كتابا للوجه”، فقد بات مُفخخاً بكل أشكال الجوسسة المتصورة وغير المتصورة، إنه أكبر موقع يُقر بوقاحه، أنه مستعدٌ للسطو على ما يضعه المستخدم فيه من بيانات وصور ومنشورات، وأن كل ما يضعه هو ملكيه خالصة له، يحق له التصرف فيها لفائدته هو، ضارباً بقوانين الملكية الفردية عرض الحائط، وإن قرر المستخدم أن يرمي بعضاً من بياناته أو رسائله ومنشوراته، أو صوره وبعض الأشخاص غير المرغوب بهم، فسيسقط كل ذلك في خوادمه، ويُخزّن فيها لأسابيع طويلة إلى أن يقرر هو أن يرميها أو يعدمها!

بكل مرة عزيزي المتصفح، تفتح فيها حسابك على فيس بوك، فإن مارك زوكربيرغ سيحل عليك ضيفاً غير مدعو أو حتى منظور، سيجلس بجوارك على الأريكة، ليعرف رقم حاسوبك واسم بلدك، وما إذا كنت رجلاً، أو مسلماً، أو مثلياً، أو مُقعداً، أو كندياً، سيرى صولاتك وجولاتك على الشبكة العنكبوتية طوال الوقت، هذا لإن له عشرات التطبيقات (الفخاخ)، التي تُتيح له مزامنة حسابك مع الجي ميل أو الياهو والواتس آب وفايبر… الخ، وحين تتصفح الموقع من حواسيب الشركة التي تعمل بها، أو من بيت صديقتك، فإنه سيلتقط عناوينهم وبياناتهم، وسيتجول معك على شبكة جوجل ويوتيوب، بسبب تقنية التشبيك التي يعتمدها، ليجعل من نفسه أحد أهم المواقع، التي تُشارك الآخرين من خلالها بالكثير من الروابط على مدار الساعة، وستبدأ على الفور اقتراحاته لك بزيارة الرابط الفلاني، أو رؤية إعلانات كذا، أو إضافة صديق قديم من مدينتك، أو مشاهدة فيديو، أو قراءة كتاب ما، أو تصفح جريدة، أو المشاركة في حدث، أو التبرع لجهة ما….الخ، سيفعل هذا دون أن تلحظ تطفله عليك، لأنك قد أطلعته على ذوقك في الطعام، وتوجّهاتك السياسية، والسينمائية، والجنسية، وستكون قد عرّفته بخساستك مع أصدقائك، حين تمتدحهم على الصفحة العامة ثم تطعنهم بالظهر على الخاص، سيعرف بأنك اشتريت هدية عيد الميلاد لعشيقتك، من حساب بنكي آخر، لا تعرف به زوجتك ولا السلطات الضريبية، حتى أنك عرّفته بالروائح التي تُسبب لك الحساسية، بل لقد عرّفته حتى بأصدقائك وأهلك وأصدقائهم وأهلهم، وبالباص وورد الخاص، الذي تسعمله للدخول إلى مواقع القمار التي تجني منها بضعة دولارات، والمواقع الإباحية، سيعرف بفشلك في الزواج، وحصول ابنك على صفر في الرياضيات، وأنك تسمع فيروز كل صباح مع فنجنان قهوة تركية!

• لماذا كل هذا؟

إن أي موقع تزوره أو تشاركه مع أصدقائك، أو أي ضغطةٍ منك على مفتاح Enter، تُتيح لزوكربيرغ أن يتوفر على منجمٍ هائلٍ من المعلومات عنك، بل إن كل نقرةٍ على كلمة ما تكتبها (وحسابك مفتوح)، ستنتهي في خوادمه على شكل بيانات، تُستعمل لتحليل سلوكك الإستهلاكي أنت ومن تعرفهم، ومن ثم معالجة هذه البيانات، بغرض الإستفادة منها لفائدته الربحية، ولفوائد أمنية كما تتطلب ذلك قوانين الولايات المتحدة الأميركية، التي يُحيلك زوكربيرغ إليها، حين تدخل لتقرأ شروط الاستخدام، حتى أن مفهومه للعنف الممنوع على موقعه، يُرجع بشأنه لتعليمات السي آي إيه نفسها.

إن تلك المساحة الإفتراضية التي تجمع مئات الملايين من البشر، ليست أبداً بمنأى عن التطفل والجوسسة والتوجيه، إنها أكثر واقعيةً ومرارةً مما نتصور، لقد تم ترقيتها وتطويرها، لأجل أن تُحلل وتفهرس سلوك المستخدمين اليومي، وتعرف مكانهم ورغباتهم وميولهم وأفكارهم، لإستهدافهم لاحقاً بالإعلانات التجارية، أو اقتراح المواضيع والمقالات عليهم، وحتى الكتب والفيديوهات، تمهيداً لتوجيههم فكرياً نحو موقف ما، أو لتكوين لوبي فكري افتراضي، لمواضيع وأحداث ووقائع يُعينها هو، بحسب متطلبات السوق والسياسة، نعم إن هذا وأكثر منه بكثير، يحدث خلف الألياف البصرية لشاشات حواسيبنا.

• مثال!

حين تعرّضت باريس لسلسلة هجمات إرهابية قتلت قرابة 130 بريئاً، سارع زوكيربرغ إلى وضع خيار جديد على موقعه، يتضمن تلوين صور المستخدمين بالعَلَم الفرنسي، في حين توجب عليه أن يجعل من جميع أعلام العالم مُتاحةً للمستخدمين، لإظهار تعاطفهم مع ضحايا الإرهاب بكل مكان، بصرف النظر عن جنسياتهم وأديانهم، وربما يأتي العَلَم العراقي بصدارة تلك الأعلام، حين يتعرض شعبه لإبادة جماعية بطيئة عن طريق تفجيرات شبه يومية، تأتي على العشرات يومياً، إن ما فعله فيس بوك بذلك التصرف غير العفوي، هو عدم تمثيل جميع  المتضررين من نتائج الإرهاب بالعالم، بل إعطاء أولوية لمتضرري جهة واحدة فقط منه هي الغرب.

إن صناعة رأي عام أو توجيهه هنا، تخدم سياسات فيس بوك الإنتقائية، وتتمثل في التعاطف مع ضحايا وتجاهل ضحايا آخرين على أُسس عنصرية، وخلق هرمية طبقية عالمية جديدة، وقد نجح فيس بوك في دفع ملايين المستخدمين حول العالم (منهم مسلمون)، لتلوين صورهم بالعَلَم الفرنسي، وسحب مشاعرهم ومواقفهم باتجاه تأييد جهة واحدة منكوبة (الغرب) وتجاهُل بل ولعن جهة أخرى منكوبة أكثر منها (الشرق)، وهذه الأخيرة يعاني أهلها من القتل والإرهاب والتشريد والمجاعات، منذ إعلان الحرب على أفغانستان سنة 2001 وما تبعه من إحتلال العراق، وتدهور الأوضاع بسوريا ولبنان واليمن وليبيا وفلسطين ومالي والصومال …الخ.

• ما هو دورنا؟

نحن موظفون مواظِبون عند مارك زوكيربرغ من دون أجر، نسيّر له شركته كما ينبغي، نداوم على فتح الباب حتى في العطلات الرسمية والأعياد، نبحث عن عملاء جدد كل يوم، أو نقبل طلبات جديدة للإنضمام للشركة كل يوم، نقترح عليهم روابط، وصور، ومواضيع أو كتب، والمدير يراقب ويقيّم ويطرد أحياناً من لا يرضى عنه، فيُنهي خدمة من يُبلِّغ عن حسابه لأنه لم يعد يعجب أحد عملاءه، حتى وإن لم يستغل عمله في الطعن بالناس أو أعراضهم، وحتى لو كان يمارس التنوير ضد التطرف الديني والديكتاتورية، أو كان يعبّر عن أفكاره التي تزعج الآخرين بأدب وعقلانية ملحوظة.

إن مستحقي الشكر والإمتنان لمعرفتنا بكل هذا، هم جوليان أسانغ وبرادلي مانينغ وأخيراً إدوارد سنودن، الذين دفعوا أثماناً باهضة من حريتهم، وكرامتهم الشخصية والعائلية، لأجل أن يقدّموا لنا حقيقة انتهاك الخصوصيات والجوسسة العالمية والتلاعب بالتوجهات السياسية، وكيف يموت كل واحد منهم وهو حي، لأجل أن يخبر العالم عن كواليس عالم الحريات المزعوم، وكيف تُلفّق لهم تهم التحرش بالأطفال، لضرب مصداقيتهم عند الناس، وحتى لو اشتكت أنجيلا ميركل، من تطفل المخابرات الأميركية على هاتفها الشخصي، وحتى لو تسرّبت مكالمة تجمع نيكولا ساركوزي بفرانسوا أولوند، أحدهما يحزر أن أميركا تتصنت عليه والآخر يضحك مستبعداً ذلك، فإذا بإدوارد سنودن ينشرها علناً، فسيظل الثلاثة أعلاه مجرمون، مغتصبو أطفال، ولصوص يجب القبض عليهم وتقديمهم للعدالة، في حين يظل الجناة يكلموننا عن العدالة والحريات!

_______________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

مراجعة في المنجز الغنائي للفنان أحمد فكّرون

زياد العيساوي

الملحمة الليبية

المشرف العام

تنوير

منصور أبوشناف

اترك تعليق