دراسات

سؤال الهوية في خطاب القصة الليبية القصيرة

سؤال الهوية في خطاب القصة الليبية القصيرة

علي محمد الجعكي وطاهر امحمد بن طاهر نموذجاً

سؤال الهوية في الخطاب القصصي

تأسيسا على ما سبق سأحاول في هذا الجانب التعرض إلى انعكاسات سؤال الهوية الشائك في خطاب القصة الليبية القصيرة، وقد وقع الاختيار على ثلاث مجموعات قصصية لكل من علي الجعكي وطاهر بن طاهر موزعة في تاريخ نشرها على أعوام 2000م، 2006م 2010م، وذلك لتلمس سؤال الهوية خلال هذه العشرية المهمة وانعكاساتها على الخطاب القصصي، وذلك من مدخلين منهجيين: الأول، دلالات التفاعل النصي الذاتي في مجموعتي الجعكي 2000م، 2006م ، وخطاب الشخصية القصصية عند طاهر بن طاهر 2010م .

دلالات التفاعل النصي عند علي محمد الجعكي:
ثمة توجه نقدي تأصيلي يرى بأن جنس القصة القصيرة ابن شرعي للرواية، فهي التي منحت هذا المولود العبقري خصوصية التكثيف الدلالي والاقتصاد السردي، الذي أفضى به إلى أن يصبح فيما بعد قصة قصيرة جدا أو ومضة قصصية، ويبدو أن كل ذلك قد جعل من القصة القصيرة فنا من صنف السهل الممتنع، الذي يغري صاحبه بامتطاء صهوته لأول مرة باقتصاده السردي ومقدرته العبقرية على مواكبة لليومي والواقعي، لكن السهل سرعان ما يصبح فرسا جموحا قد تؤدي بصاحبها إلى غياهب التكرار واستنفاذ التجربة لمقومات الإبداع في مجموعتي علي الجعكي القصصيتين ( سر ماجرى للجد الكبير – أموت كل يوم ) . تبحث لأول وهلة عما يشدك إلى الواقع، فزمنيا تتأطر بين زمنين واقعيين خارجيين هما العام 2000م في مجموعة سر ما جرى للجد الكبير، والعام 2006م في مجموعة أموت كل يوم، وبضع مؤشرات زمنية متناثرة تؤرخ لزمن كتابة بعض النصوص 1984م- 1986-2005م، ومرجعيا في اسم الجعكي نفسه بحضوره الواقعي ثقافيا واجتماعيا، أما غير هذه المؤشرات الواقعية فإن القارئ الباحث منطقية القص ومرجعيته الواقعية سيجد نفسه أمام مساحة واسعة ومعقدة من إرباك اللاءات، فلا حدث منسجما في منطقية الهوية والمرجعيات، حينما يصبح الحدث مزيجا من المحكي البسيط الذي سرعان ما يتحول إلى حدث سريالي يتداخل فيه الواقعي بالأسطوري واللامعقول المفضي إلى المزيد من اللاءات .فالزمن ينداح في بنية زمنية دائرية من المعاصرة الشديدة إلى الارتداد إلى الأبدية السحيقة ومنها إلى اللامكان المبرز قصدية التشظي، فلا مستقر للذات يجعلها تحاكم بمعايير الفضاء المعياري المحدد، فهي تهيم بين مستقر ولا مستقر يشدانها إلى مادية ترفض الجغرافيا المحددة، فمن الصحراء وجبالها ( أكاكوس، تاسيلي، وتادرارات )، إلى المدينة في ثلوج وارسو وحنين لبدة والمرقب الشامخ، إلى شاطئ أغادير وعبق دمشق وصولا إلى المدينة بمطلق المدينة والشاطئ والجبل بمطلق الشاطئ والجبل ويستمر فيض اللاءات فلا مجال واسعا للمشهدية السردية ولا وفرة في الشخصيات، كل ذلك الاختزال يؤكد أن ثمة بنية درامية خاصة بالذات التي تدخل في حوارية تأملية وصفية اغترابية خاصة مباشرة أو غير مباشرة .

المؤشر التفاعلي النصي الذاتي التأطيري بين المجموعتين يطرح السؤال الأهم ما الذي يقف خلف الصبر الشديد على هذه اللاءات السردية، وما سر الحرفية العالية في السرد التأملي عند علي الجعكي في مجموعتيه القصصيتين ؟ . أبحث شخصيا عن إجابة تفاعلية عن هذا التساؤل في المجموعتين ( سر ما جرى للحد الكبير 2000م، وأموت كل يوم 2006م )، حيث يبرز طيف من أفق التوقعات للإجابة عن هذا التساؤل، إنه صفاء اللاءات المؤكد إشراقة الذات في فضاء رحب، تتخلص من قيود واقعها في زمن الكتابة الصعب 1984-2005م، وزمن النشر الأصعب 2000-2006م، وتتخفف من عبء الوقائعية وتبعاتها القاسية، وتنجو بلاءاتها من زمن اللاءات الأكبر، وتطلق العنان للذات لتسوح في لغتها التأملية المراوغة العميقة لتقول ما تريد مسلحة بصوفيتها الشفافة الرائقة التي تصل بالنص إلى مستوى السريالية العصية على التأويل المباشر، وتختزل حدة اللاءات المنطق لترتفع فوق واقعها السييء، وتطلق العنان لأسئلتها الوجودية والاغترابية الخاصة فتلك هي منطقتها:
– ( الموج الأحمر يرتفع حوله .. وجه شمعي ينهض من ركام الحريق .. يتشكل في البركان القاني .. ينفض عنه برودة اللون الأبيض . نصفه الأعلى يختبئ وراء نظارة سميكة .. الخطوط تتكسر في عينيه .. تدب تحت الزجاج كالنمل .. تومض ببريق مخيف.. ملاءات بيضاء كالثلج تعبق منها رائحة اليود .. وجوه شمعية أخرى تتشابك كالحلم الغائم .. تبهت ملامحها .. دقات بطيئة تترجرج في الأفق ) .
– ( أنت هنا إذا .. تقولها الريح للمرة الألف .. تصبها في أذنك طوفانا من نار، وأنت تكابد الضربات المتتالية، والأكف اللامرئية، وحبيبات الحصى تلسع عريك .. بشرتك النحاسية الدامية تفقد الإحساس بالألم وأنت تفقد الإحساس بالحزن ) .

وبالانتقال إلى أفق آخر من التفاعلية النصية الذاتية بين المجموعتين القصصيتين، تبرز لاءاتهما الخاصة انصهارهما لتشكلا بنية نصية واحدة تتخذ شكل السرد الدائري الذي يعود إلى نقطة البدء من جديد . إنها حركة الذات التي تتساوى فيها البدايات بالنهايات لترسم صورة الارتداد والتماهي مع المرجعية الإنسانية الأبدية، إنها الحركة بين المبتدأ في افتتاح المجموعة الأولى من خلال قصة سر ما جرى للجد الكبير، والخبر في نهاية المجموعة الثانية من خلال قصة حنين إلى النار، قصتان تختزلان الحركة الدائرية بين المبتدأ والخبر فيكون تفاعل النص الأول في المجموعة الأولى والنص الأخير في المجموعة الثانية تماهيا للمبتدأ في الخبر و للخبر في المبتدأ . يحاور النصان بعضهما، يتفاعلان وإذ بكليهما مبتدأ وخبر في الوقت ذاته، فتلكم هي قيم الجدلية الأبدية بين الحياة والموت والبعث، تجسدها حوارية العناوين في نصوص المجموعتين : السر – الجد – الحنين – النار – الطوفان – الفينيق – اللعبة، الرامزة إلى القوى الدافعة نحو التمسك بالتجدد والخلود القابع في كنه المرجعيات .
في القصتين السر والحنين يقف الجد والحفيد ليجسدا تفاعلا يكرس بحث الذات عن أبديتها النقية داخل بنية من القشور واللعنات التي تلاحقها في سر ما جرى للجد الكبير حيث الذات والصحراء والراحلة والغزال والتيه على خطى الجد حامل الأسرار المخرجة من الهلاك، ( لقد ورث عن جده أسرار الصحراء التي يحتاجها المتنقل عبر هذا الامتداد المخيف من الرمل المتحرك ). تيه الجد يحمل في طياته بشارات العودة، إنها رحلة البحث عن الخلاص الأبدية المترعة بأفق المعرفة، ( لو قتل أمامي لقلت لكِ إنه حي .. رجلك ليس كالرجال .. ارجعي إليهم وانتظريه .. انتظري العلامة التي لا توجد في أحد سواه .. سيرجع ممتطيا صهوة البرق البازغ من الشمال ). أما في حنين إلى النار فتتأكد من جديد معاناة الذات في المكان حيث الخواء والجوع، والخوف على العقب والهوية من المجهول : ( لنرحل أيتها الشريكة فالوطن أصبح فخا .. علينا أن ننجو بأطفالنا منه .
– إلى أين ونحن لا نملك دابة ولا زادا ولا قوة ؟ .
– أرض الله واسعة .. نرحل إلى حيث لا يوجد جراد يسرق أجسادنا )
إنها مقاومة الذات والهوية لحركة الانسياق وراء الاغتراب والانتحار، صوت المرأة يدعوه إلى الصمود والمقاومة، ومن بعده يستحثه صوت الجد – الهوية – القادم من الأبدية، ( الصوت فيه بحة جدي وحكمته .. شممت رائحته القديمة التي كانت تميزه رأيته يتسلق القمة في وهج .. كان يمرق كطيف من الضوء .) يبرز الجد في صورة طائر يخرج في الحلم يبقى حيا يحقق استعادة التوازن، ( ظهر في لحظة ضعف مخجلة سيطرت على كياني، كادت أن تجعلني جبانا مخادعا ) .

وفي خاتمة النصين تتكرس التفاعلية في الخروج من الأزمة من خلال الارتداد إلى الفطرة والحكم الحياتية الأبدية التي يستوي فيها الفناء مع الحياة، فالعودة من الحلم إلى الواقع شكلت خسارة للذات، لأنها الضياع في غياهب المادة، فتكون خطى الجد نحو أبدية تيه البحث عن الحقيقة – الهوية – هي الهاجس الذي يراود الذات في خاتمة النص المبتدأ : ( الآن فقط شعر بأنه فقد نفسه .. فقد كل شيء يملكه كما فقد جده من قبل .. خير له أن يضيع في مسارب الجبل ومتاهاته .. أن ينشر جسده للريح والشمس الحارقة فوق الذروة المسننة .. أن يصارع الريح فوق السنام القاتل كما صارعها قبله جده الكبير ) .
وغير بعيد عن هذا التصور تكون خاتمة النص الخبر، فخطى الجد إن كانت في ظاهرها تحمل إلى المجهول فإنها تمتلك بعدا قدريا أبديا مفاده أن على الإنسان الباحث عن الهوية أن يعيش حس المغامرة، ليتجاوز ركوده وإحباطه : ( علينا أن نتبعه، فآثار خطواته انطبعت على الرمل ولم تفلح الريح في محوها .. إنني أتبعها كل يوم .. ترشدني في رحلاتي .. لكنها تتحول بي الآن إلى البعيد .. سأتبعها لأنني أعرف أنها لن تخذلني .. إنها قدري المعلق في عنقي ) .

مقالات ذات علاقة

جماليات الحكاية والسرد في قصة: أه يا هند للمرحوم محمد ساسي العياط

عبدالحكيم المالكي

بعد ربع قرنِ من الزمن – 1

علي عبدالله

أماكنٌ وأعلامٌ في السيرذاتية الشعرية للبغدادي(*)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق