قصة

حفيد الشمس

أرقه وسهاده ، لم يكن لهما علاقة بالتعب أو المرض ، ولا حتى بتعقيدات وهموم المجتمع المتعايش معه .. إنما لأن عبق الماضي يلاحقه بأطيافه وشواهده … وهو الذي ظن أنه قد تركه في رعاية قرص الشمس المولود وراء تلال الرمال الذهبية .

رمق المرآة جيداً ، ابتسم بجفاء لصورته المنعكسة وخاطبها :

ـ لقد تجاوزتِ عقدك الرابع …

تملك صورته شعور مؤلم بتطفلها عليه ، حينها أفصحت :

ـ برودة المكان جعلت منك لوح جليد يمكن لأي كان تشكيله ..

صعق لهول ما سمع من كلمات ، ليس لشيء إلا لأنها كانت من ذات لغته الأم ، التي لم ينطق بها منذ أمد بعيد … تبددت الدهشة من عينيه ، ليحل مكانها دفء قديم.. شعر بالوحشة ، تهاوى مستنداً للجدار البارد .

غالب دموعه .. لأول مرة روحه يجرفها الإنهزام ، باتئاد خطى نحو صندوق عتيق ، أخرج زجاجة صغيرة مملؤة تراباً بلون التبر ، حاذر في فتحها كي لا تنكسر فوهتها ، نال مبتغاه .. تحسسها بأنفه ، وكأنه يشتم رائحة عطر نقي باهض الثمن .

ضمها بشدة أوهنت فيه كل قدرة على مفارقتها .. رأى فيها أمه ، وهي ترتدي ردائها المزركش ، وتضع على رأسها  لفافة * ذات لون أحمر ممزوج بالبني وهي تتوسله بأن يعود عن قراره ، فيما تناوله كوب شاي أخضر .. حين أدارها لاحت صورة والده يحرك بأصابعه حبات الكاكاوية * فوق جمرات الكانون * ويصرح لوالدته بأن نزق الشباب يسيره ، وبأنه نادم لا محالة ..

تسلل من بينهما ، ليجلس القرفصاء تحت سدة * العنب التي طالما أحبها .. وقبل أن يعود عما عزم عليه ، اغترف كمشة * تراب لتذكره بهويته.

تمكن البرد من أوصاله .. سرت ببدنه قشعريرة أعادت حاضره من ماضيه .. ليجد نفسه مازال ماسكاً بزجاجة التراب ، فيما أنيسه الوحيد صوت مذيع ، يتكلم بلغة أجنبية .. هب واقفاً أخرس ذاك الصوت الغريب ، بظهر يده مسح دموعه ، و بدون إسهاب في التفكير عزم على الأمر ..

استقرت خفقات قلبه .. تملكه شعور غريب هو مزيج من الخوف والحنين .. حزم خوفه ، سافر لحنينه ، ضم إرثه بين يديه ..

قلبه كاد ينتفض من بين جوانحه ، عندما وجد من أحبهم متلهفين لعودته وكلهم شوق لاحتضانه .

نام ملء جفنيه .. ورأى من بين أحلامه أن أوراق النجم * الذابلة ما كان لها أن تغطي سنابل الشعير السامقة لأنها أرادت أن تلمس الشمس ..

 ___________________________________

 هامش :

  • لفافة : ما تلف به العجائز في ليبيا رؤسهن .
  • الكاكاوية  : الفول السوداني .
  • الكانون : إناء صغير توضع به جمرات يستخدم عادة للتدفئة أو لجلسة الشاي.
  • سدة : تعريشة .
  • كمشة : قبضة يده مملؤة تراب .
  • النجم : العشب أو المسطح الأخضر .

مقالات ذات علاقة

فوارق

أحمد يوسف عقيلة

إصرار

حسين بن قرين درمشاكي

الديك

رشاد علوه

اترك تعليق