أرقه وسهاده ، لم يكن لهما علاقة بالتعب أو المرض ، ولا حتى بتعقيدات وهموم المجتمع المتعايش معه .. إنما لأن عبق الماضي يلاحقه بأطيافه وشواهده … وهو الذي ظن أنه قد تركه في رعاية قرص الشمس المولود وراء تلال الرمال الذهبية .
رمق المرآة جيداً ، ابتسم بجفاء لصورته المنعكسة وخاطبها :
ـ لقد تجاوزتِ عقدك الرابع …
تملك صورته شعور مؤلم بتطفلها عليه ، حينها أفصحت :
ـ برودة المكان جعلت منك لوح جليد يمكن لأي كان تشكيله ..
صعق لهول ما سمع من كلمات ، ليس لشيء إلا لأنها كانت من ذات لغته الأم ، التي لم ينطق بها منذ أمد بعيد … تبددت الدهشة من عينيه ، ليحل مكانها دفء قديم.. شعر بالوحشة ، تهاوى مستنداً للجدار البارد .
غالب دموعه .. لأول مرة روحه يجرفها الإنهزام ، باتئاد خطى نحو صندوق عتيق ، أخرج زجاجة صغيرة مملؤة تراباً بلون التبر ، حاذر في فتحها كي لا تنكسر فوهتها ، نال مبتغاه .. تحسسها بأنفه ، وكأنه يشتم رائحة عطر نقي باهض الثمن .
ضمها بشدة أوهنت فيه كل قدرة على مفارقتها .. رأى فيها أمه ، وهي ترتدي ردائها المزركش ، وتضع على رأسها لفافة * ذات لون أحمر ممزوج بالبني وهي تتوسله بأن يعود عن قراره ، فيما تناوله كوب شاي أخضر .. حين أدارها لاحت صورة والده يحرك بأصابعه حبات الكاكاوية * فوق جمرات الكانون * ويصرح لوالدته بأن نزق الشباب يسيره ، وبأنه نادم لا محالة ..
تسلل من بينهما ، ليجلس القرفصاء تحت سدة * العنب التي طالما أحبها .. وقبل أن يعود عما عزم عليه ، اغترف كمشة * تراب لتذكره بهويته.
تمكن البرد من أوصاله .. سرت ببدنه قشعريرة أعادت حاضره من ماضيه .. ليجد نفسه مازال ماسكاً بزجاجة التراب ، فيما أنيسه الوحيد صوت مذيع ، يتكلم بلغة أجنبية .. هب واقفاً أخرس ذاك الصوت الغريب ، بظهر يده مسح دموعه ، و بدون إسهاب في التفكير عزم على الأمر ..
استقرت خفقات قلبه .. تملكه شعور غريب هو مزيج من الخوف والحنين .. حزم خوفه ، سافر لحنينه ، ضم إرثه بين يديه ..
قلبه كاد ينتفض من بين جوانحه ، عندما وجد من أحبهم متلهفين لعودته وكلهم شوق لاحتضانه .
نام ملء جفنيه .. ورأى من بين أحلامه أن أوراق النجم * الذابلة ما كان لها أن تغطي سنابل الشعير السامقة لأنها أرادت أن تلمس الشمس ..
___________________________________
هامش :
- لفافة : ما تلف به العجائز في ليبيا رؤسهن .
- الكاكاوية : الفول السوداني .
- الكانون : إناء صغير توضع به جمرات يستخدم عادة للتدفئة أو لجلسة الشاي.
- سدة : تعريشة .
- كمشة : قبضة يده مملؤة تراب .
- النجم : العشب أو المسطح الأخضر .