النقد

جماليات السرد في القصة القصيرة.. قصة الذاكرة لإسماعيل القائدي أنموذجا

من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد
من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد

أولا. مدخل

يرسم الراوي في قصة الذاكرة حكاية فقدان رجل ذاكرته، بعد أن علقها في الليلة السابقة على المشجب في الفندق الفخم الذي يقيم فيه. نتابع انهماك الرجل (غير المحددة شخصيته بدقة) في البحث عن ذاكرته بعد خروجه من الحمام متخلصا من دنس الليلة السابقة.

 يبحث عن الذاكرة ويشاركه البحث عامل الفندق، ثم تكبر القضية فتأتي كل أجهزة الدولة للبحث عن تلك الذاكرة الضائعة، وفي نهاية المطاف يتم نقله إلى مستشفى المجانين، وهناك في المستشفى اكتشف أن البقاء بدون ذاكرة (ككل الناس) أجدى وأفضل.

 قصة فيها رمزية عالية، وأسلوب ساخر لا يظهر إلا قليلا،  يشتغل فيها الراوي على آلام النفس البشرية، وهي تشبه من حيث البعد الإجناسي نصوص القصة الحديثة التي تتناول بالسرد الهموم النفسية وآلام الإنسان، يمكن أن يتابع القارئ البعد الرمزي لمسألة فقدان الذاكرة، ثم السعادة بذلك، وهي ازمة شخصية ذات بعد ثقافي ونفسي باقتدار

القصة فيه النمط ذاته من الكتابة الذي كتب به (أسماعيل القائدي) مجموعته القصصية (والأرض لم تتوقف عن الدوران)، بالهموم النفسية الحاضرة من خلال مجتمع المدينة الضاغط على الأفراد.

ثانيا. التصوير المميز في بداية القصة وتجسيم الراوي لأشياء معنوية

بدأ الراوي القصة متحدثا عن قيمة الشوق في النفس،  وأستخدم صورة ترسم بشكل مميز لوحة عن الذكرى وهي قيمة معنوية عندما تصبح عبر الزمن مادية وتترسب في العمق:

“يرتحل الشوق متكئا على عكازه، وتترسب الذكريات في قيعان البواطن، تبقى راكدة بحركة الحنين، فيعكر صفو الأيام. “[1]

ثم نجد صورة للشخصية فيها تشويش أو ما يشبه الفنتازيا؛ حيث ترك ذاكرته معلقة على شماعة الحجرة في أحد الفنادق الكبرى التي يقيم فيها، وقد يكون من المناسب أحيانا أن يتخلص بعضهم من ذاكرته لصالح دنس اللحظة التي يعيشها. نلاحظ ذلك في المقطع التالي: 

قبل الرحيل ترك ذاكرته معلقة على شماعة الحجرة، دلف إلى الحمام، اغتسل من دنس الليلة الماضية، خرج ليصلي، لملم ملابسه في حقائب،

ثالثا. البعد الساخر والمسكوت عنه في القصة

يصور الراوي الشخصية وهو يلملم نفسه باحثا عن الذاكرة التي تركها عندما خرج الليلة الماضية على المشجب، ثم يصور الراوي الشخصية وهو يمارس سخرية مميزة منها لنتابع ذلك:

“وقف أمام المرآة يمشط ما تبقى من شعيرات بيضاء تلف رأسه الكبير، عدل من حزام بنطاله ليتماشى مع كرشه الذي يزداد ضخامة يوما بعد يوم.”

يبدو الشخصية كهلا أو شيخا، ليس له إلا شعيرات قليلة شائبة في رأسه، وكرشه ضخم، وتزداد ضخامة كل يوم، وقد عاش ليلة صاخبة بدون ذاكرة، تاركا إيّاها في فندقه، ثم في الظهيرة التالية عاد لرشده؛ وقرر التطهر من الدنس ومن ثم أداء الصلاة، باحثا في هذه اللحظة عن الذاكرة التي لن يجدها.

رابعا. الأزمة ذات البعد العجائبي وغير واضحة الأسباب

في قصة الذاكرة الأزمة واضحة، لكن أسبابها غير واضحة، وهي ذات بعد رمزي وتتحدث عن شخصية واقعية؛ لكن ما يحدث غير واقعي يمكن ان نصفه بكونه عجائبيا، فليس هناك من يضع الذاكرة على المشجب في الفندق (عديد النجوم) في ليلة من ليالي السفر، كما انه ليس هناك من لا يجد الذاكرة في ظهيرة اليوم التالي، وذلك بعد ان تطهّر من دنس الليلة السابقة، لنتابع بداية القصة:

“… وقف أمام الشماعة.

  • أين ذاكرتي؟
  • بدأ رحلة بحث عن ذاكرته في الحجرة الواسعة في فندق عدد نجومه بعدد نجومنا، في خزنة الملابس، على الطاولات، في حذائه وجواربه، بين ملابسه، تحت السرير، “

نلحظ من مدخل القصة السابق حيث تصوير الشوق مرتحلا على عكاز، ومن أزمة فقدان الذاكرة تلك القدرة المميزة لدى الراوي على تجسين أشياء معنوية ويجعلها ذات قيمة مادية.

خامسا. تصوير الراوي للشخصية

قام الراوي بتصوير الشخصية داخليا من خلال تماهيه معها، وهو ما يعرف لدى مدرسة النقد الفني بالمونولوج المروي، حيث أبرز بلغة شعرية مشاعرها العميقة عن الشوق، كما ابرز تصورها  للذكرى في قيعان البواطن، وهو تصوير قد يبدو محايدة ظاهريا، إلا أنه يعبر عن حجم توتر تلك الذات وما تعيشه من ألم. كما نجد الراوي يصور الشخصية خارجيا وهو يعبر عن خبرته الخاصة فيما يخص عميق وعي الشخصية، حيث يصور كرشه الذي يزداد باستمرار ، راسما بذلك الشكل حسرة الشخصية على ما يحصل لجسده ويعكس في الوقت نفسه التناقض بين ما عاشه تلك الليلة من دنس، وبين سنه التي تحتم عليه تصرفات مختلفة.

سادسا. لحظة التنوير في القصة:

تميزت القصة بوجود ما يعرف بلحظة التنوير، لنتابع هذا المقطع في أخر القصة بعد وُضِعَ فاقد الذاكرة في مستشفى المجانين، وكيف صار له تصور مختلف للذاكرة وأهميتها:

“بحث الناس أياما كثيرة، ورصدت مكأفاة كبيرة لمن يعثر عليها دون فائدة تذكر. فيما اعتاد الحياة دون ذاكرته، بل وكانت سعادته أكبر من غيرها … فقد تعلم كيف يعيش بغير ذاكرة كبقية الناس.” ففي لحظة التنوير حدث التحول للشخصية، وأصبح قانعا (مع القطيع) بلا جدوى الذاكرة.

خلاصة:

تميزت القصة بقول شيء ما مباشرة، وبقول شيء أخر من خلال السكوت عنه بشكل غير مباشر، ونحن بهذا الشكل أمام قصة المدينة وآلامها وجراحها الموجعة ووطأة ضغطها على أفردها المنفصلين عن بعضهم البعض. كما نجد التشويش التي تعيشه بعض الشخصيات المصحوب بالتوتر والألم، والقصة كما يمكن أن يلاحظ القارئ عديدة أبعاد الفعل، فهي قصة ازمة إنسانية، كما انها تحتوي سخرية عميقة ضمنها، كما تحتوي على ابعاد إنسانية متعددة.

معالجة فكرة القصة كانت مميزة واشتغال للغة كان رائعا، مما جعل الأزمة التي تعيشها الشخصية منطقية مقبولة، وهي من القصص التي يتمثل فيها القلق النفسي والنسيان وهي كما اسلفنا  تدور (تقريبا) في فلك موضوعات إسماعيل القصصية السابقة ضمن مجموعته القصصية والأرض لم تتوقف عن الدوران.

من النقاط الأخرى المميزة في القصة توظيف الراوي للسخرية وكذلك للبعد الفنتازي، كما تظهر القصة قدرة ذلك الراوي على تجسيم المشاعر وجعلها ممتلكة لقيمة مادية وهي تحسب للكاتب، فقد استطاع من خلال كلمات بسيطة أن يقول اشياء كثيرة مميزة.


[1] اسماعيل القايدي، قصة الذاكرة.


قصة الذاكرة

“لو كانت لي القوة على النسيان، لنسيت ان كل ذاكرة بشرية محملة بالشجون والآلام”
(تشارلز ديكنز)

أسماعيل القائدي

يرتحل الشوق متكأ عمى عكازه، وتترسب الذكريات في قيعان البواطن، تبقى راكدة. يحركها الحنين، فيعكر صفو الأيام.

قبل الرحيل.. ترك ذاكرته معلقة على شماعة الحجرة، دلف إلى الحمام، اغتسل من دنس الليلة الماضية، خرج ليصلي، لملم ملابسه في حقائب، وقف أمام المرآة يمشط ما تبقى من شعيرات بيضاء تلف رأسه الكبير، عدّل من حزام بنطاله ليتماشى مع كرشه الذي يزداد ضخامة يوم بعد يوم، عدّل من ربطة عنقه الحمراء. لتتماشى مع عنقه السميك.

وقف أمام الشماعة.

  •  أين ذاكرتي؟

 بدأ رحلة بحث عن ذاكرته في الحجرة الواسعة في فندق نجومه بعدد نجومنا، في خزنة الملابس، على الطاولات، في حذائه وجواربه، بين ملابسه، تحت السرير، لم :يجد شيئا، جنّ جنونه:

  • أين ضاعت ذاكرتي؟ أين وضعتها؟

رمى الاقمشة عن أرضية الحجرة معربدً قلب السرير رأسًا على عقب، الشياطين تتراقص أمامه، ودمعة تدور في محاجر عينيه، انقطع حزام بنطاله، فكّ ربطة العنق .بحنق، احتقن وجهه، دار في الحجرة كالمجنون.

  •  ما لمشكلة يا سيدي؟
  • ابحث معي أيها الاحمق عن ذاكرتي
  • أين وضعتها يا سيدي؟
  • لو كنت أعرف مكانيا ما طلبت منك البحث معي.. يا غبي!

ظل الجلان يبحثان، تسرب الأمل من تحت الأكمام، وثورة النزيل وصلت حتى السماء السابعة، ووصلت قوات الأمن المعززة بالكلاب، وصلت سيارات الإطفاء تلف المكان تحسبا لأي طارئ.

وجاءت سيارة الإسعاف تنقل النزيل إلى المستشفى، ففيما بقيت باقي القوات في الحجرة تواصل البحث عن الذاكرة المفقودة.

بحث الناس اياما ككثير، ورصدت مكافأة لمن يعثر عليها دون فائدة تذكر.

فيما اعتاد الحياة دون ذاكرته، بل وكانت سعادته اكبر من غيرها … فقدد تعلم كيف يعيش بغير ذاكرة كبقية الناس.

مقالات ذات علاقة

عزة المقهور.. كامرأة تربعت على حافة العالم

المشرف العام

علكة تتألم في أفواهنا

محمد الأصفر

ديوان الزمان .. والمكان

عمر عبدالدائم

2 تعليقات

عبدالحكيم المالكي 4 مايو, 2020 at 22:24

إسماعيل القائدي
صدرت له مجموعة قصصية بعنوان: الأرض لم تتوقف عن الدوران .
فاز بعديد الجوائز الدبية في مجال القصة القصيرة منها:
مسابقة الجامعات الليبية سنة 2007 عن قصة الأرض لم تتوقف عن الدوران.
فازت قصته التي حولها الدراسة: الذاكرة بجائزة مسابقة سيكلما للشعر والقصة / الترتيب الثاني سنة 2016
فازت قصته قرنا كبش ابيض بجائزة مسابقة سيكلما للشعر والقصة / الترتيب الثاني سنة 2017

رد
المشرف العام 5 مايو, 2020 at 13:19

نشكر لك هذه الإضافة أستاذ عبدالحكيم

رد

اترك تعليق