المقالة

أرواح بـريـة

ثمة أسئلة كثيرة طالما راودت مفهوم الحرية، وطالما جابهت ثقل هذه المفردة التاريخي، والتي وصل نهم التداول معها إلى أسئلة من قبيل: هل الحرية غريزة أم ثقافة أم مكتسب؟.. أم هي اكتشاف تطور مع تطور الجنس البشري؟.. هل كان الإنسان الأول، الذي عاش طليقاً في غابات التعرف على العالم، يراوده هذا السؤال؟..أم اكتشفه مع إحساسه المتزايد بمضايقة المحيط له؟.. هل الحرية مطلب بيولوجي يخص خلايا الجسد ومكونات الدماغ البشري ومتسرب في سيرة الجينوم الإنساني؟.. أم هي نتاج معرفي وتاريخي رسمت خرائطه البراعم الأولى لمفهوم التسلط والزحام البشرى؟.. وبالتالي هل هذا السؤال حكر على الإنسان من دون باقي الكائنات؟.. أليس ثمة حيوانات لم تروض إلى الآن لسلطة الإنسان؟.. وألا يوجد ضرب من الحيوانات الأليفة المروضة التي تتمرد على سادتها وتنطلق في أرض الله الواسعة كحيوانات برية؟.. ألا توجد نباتات تتسلق الجدران من أجل أن ترى الضوء كي تتنفس وتنمو؟…. أسئلة كثيرة من شأنها أن تنقلنا إلى ملحمة من السجال الذي بقدر ما يختلف في تفاصيله بقدر ما يفضي إلى نتيجة واحدة وهي أن الحرية بكل مستوياتها مطلب حيوي لم يخفت طيلة التاريخ.

غير أن المدخل الذي يعنيني في هذه المقاربة هو مفهومها عندما وجد الإنسان نفسه ضمن مجتمع تربطه به علائق حيوية، وفي الوقت نفسه لايكف عن الصدام به وبتابوهاته المتعددة.. ومن هذا المنطلق،ورغم كل ما دفعه التاريخ البشري من تضحيات من أجل هذه القيمة – إلا أن المفهوم الجذري للتعامل مع هذا السؤال بدأ ضمن منجزات الحداثة التي مشت خطواتها الأولى على قدمين: الذاتانية وإطلاق الحريات، ومن يومها لم يكف الشغف الإنساني بتجذير هذه القيم، التي يبدو أنها بدأت تجد موقعاً لأقدامها ضمن عالم يتشكل من جديد في بوثقة من الصراعات الكبرى التي ما انفكت تتشرب بضغط أخلاقي لم يهادن.. ومن هنا كان الشغف المتواصل بالحريات بقدر ما يجابه السلطات العنيفة المدججة بقدر ما يحفر أنفاقه في البنية الاجتماعية، التي لا تقل عنفاً وإن كانت أقل إمكانيات.. لكن ثمة سؤال آخر يفرض نفسه: إذا كان للمجتمع المعني يحمل هذا الثقل السلطوي تجاه مفهوم الحرية، أو بالأحرى وفي أضعف الأحوال هو مؤمن بالحرية المشروطة، فمن بحوزته هذا السؤال؟.. لا شك أن التأسيس لإطلاق الحريات دون شروط كان عملاً نخبوياً قادته النخب المثقفة، وما تدافع الأجساد في الشوارع وما أنقاض الباستيل إلا تتويجاً شعبياً لحملة هذه النُخب، التي لا تلبث أن ترى أن الشروط أو الاستثناءات – التي يضعها التابو الاجتماعي من جديد – تحمل مقتل الحرية في داخلها، تعرف جيداً أن لهذا المطلب أثمانه، لكنها ترى أن الثمن الذي يدفع في براح الحرية لايقارن أبداً بالأثمان التي تدفع في عتمة الطغيان،وإن الخسائر في الهواء الطلق لاتقارن أيضاً بالخسائر في عتمة الأنفاق.

مقالات ذات علاقة

القطار والشعر والبلد البعيد

سالم الكبتي

جائزة أحمد ابراهيم الفقيه

جمعة بوكليب

معالم دعوة الإسلام إلى استقلالية الأمة

زهرة سليمان أوشن

اترك تعليق