سرد

فصل من “الرسام الانكليزي”

سلمى – روما / 2001

Survivors 2020 Ink on paper Adnan Meatek 32 x 42 cm

الهبوط الثالث لطائرتنا خلال هذه الرحلة التي بدأت قبل يومين كان في مطار روما، بدأت أسمع اللُّغة الإيطاليَّة من حولي، وتيقَّنت أنَّ حلمي قد تحقَّق أخيرًا، بل كانت مقدِّمات ذلك في الطائرة التي انطلقت بنا من مطار طرابلس، ففي مدخلها وقفت المضيفات للتَّحيَّة، وقبل الإقلاع استمعت إلى أصوات الركَّاب يتكلَّمون اللُّغة المحبَّبة إليَّ وقطعت شوطًا في إتقانها، حتى إنَّ المسافرين اللِّيبيِّين كانوا يتحدَّثونها أيضًا، بهجتي ظهرت على ملامحي، وكدت أنسى رفيقتي وأنيستي في الرحلة جدَّتي سدِّينة، عندما تشتَّت انتباهي لحظة دخولنا مطار روما، صحت: هذا بلد الفنون، كان على أحدٍ أن يشهد فرحي، وأنا أكاد أطير لرؤية تلك الجداريَّات الفنِّيَّة تحتلُّ مبنى الوصول، كلُّ شيءٍ هنا يشير إليك بأنَّك وصلت إلى بلاد الرومان، ما تحقَّق لي في تلك اللَّحظة مسح من ذاكرتي حكايات جدِّي المنصوريِّ ومعتقله، صارت صورًا باهتةً بالأبيض والأسود، تكاد تمحوها بهجة ما أشاهد في تلك اللَّحظة، نسيت أبي وأمِّي وخالدًا وزينب، نسيت مكابدتي في إقناع الجميع بالسَّفر، وموشَّحات التوسُّل وأنا أطلب من والدي المصاريف أو تدبير الحصول على منحة إيفادٍ بحكم منصبه، وكدت أنسى جدَّتي، باختصارٍ كنت أخطو لاكتشاف عالمي الجديد، وكأنِّي وُلِدت للتَّوِّ وأنا الآن في روما!

من لحظة استقبال ليديا وفرانكو لنا في المطار تحوَّلت من فتاةٍ تمتلك عينين في وجهها إلى كتلةٍ من العيون تراقب وترى كلَّ شيءٍ دُفعةً واحدةً، أرى الجميع يتحدَّثون بلغة الإشارة، لغة الأجساد تضيف للغتهم معنًى جديدًا لم أتعلَّمه في المركز الثقافيِّ الإيطاليِّ في ليبيا، أنفي يلتقط روائح القهوة الشهيَّة التي تفوح في الأرجاء، وكدت أفقد أثر جدَّتي وفرانكو وليديا وسط الزحام، أسرعت للَّحاق بهم، ووجدت أنَّ أمتعتنا صارت فوق كرُّوسة، واتَّجهنا جميعًا للخروج، حيث حلَّت عتمة المساء، وتوهَّجت أضواء روما المبهرة، التي أراها تتلامح مسرعةً من نافذة السيَّارة، ثمَّ توقَّفت أخيرًا أمام وجهتنا، وهو بيتنا الجديد.

السكن في شقَّةٍ بالدور الأوَّل، تقع على ناصية شارع (ڤيالي) ليبيا في روما، يجاورنا من اليمين شارع (ڤيالي) أرتيريا، ومن الجهة الأخرى (ڤيالي) صوماليا، باختصارٍ نحن في روما، ولكن في الحيِّ الأفريقيِّ، ويدعى (كوارتييري أفريكانو)، كانت ليديا قد أعدَّت لنا كلَّ شيءٍ، ومن سيعتني بنا أكثر منها؟! وهي التي أمضت بضيافة جدَّتي سدِّينة عدَّة أسابيعَ في أوَّل زيارةٍ قدمت فيها للكشف عن جداريَّة البراديا، فيما كان زوجها فرانكو يقيم في غرفةٍ فندقيَّةٍ سواء كان في البردي أو انتقل إلى طبرق، أتذكَّر حينها أنَّ والدي عرض عليهما الإقامة في استراحةٍ يملكها هناك، فكانا يقيمان فيها في عطلة نهاية الأسبوع.

بعد وضع الأمتعة لم أهتمَّ كثيرًا لتفاصيل البيت، إلَّا أنَّنا حاولنا الاستعداد بسرعةٍ للخروج إلى أقرب مطعمٍ في الشارع، وهنا غادر فرانكو وبقيت معنا ليديا، التي بدت سعيدةً بأن تخبرنا بما اختارته لنا.

وفي صباح اليوم الأوَّل، تسلَّلت من النافذة المفتوحة أصوات الخارج، صرير مغاليق أبواب المتاجر، التي يتراصف بعضها بجانب بعضٍ تحت المباني على طول الشارع، أسرعت لأطلَّ وأشاهد ما يجري في الأسفل، فتمكَّنت من سماع التحيَّات بوضوحٍ، وبدأ ازدحام الناس أغلبهم يمشي مسرعًا، تأمَّلت صفاء السماء الزرقاء، سررت بأنَّه يومٌ ينبئ عن طقسٍ ربيعيٍّ، ولدينا جدولٌ من الزيارات للتعرُّف إلى بعض الأماكن لمدَّة أسبوعٍ، وذلك قبل البدء في التحاقي بالجامعة.

 تجوَّلنا في (بياتسا دي إسبانيا)، و(فونتانا دي تريفي)، وهنا في هذه البقعة تحديدًا كانت كلُّ مشاعري تدعوني للصَّمت التامِّ، كنت أشاهدها في الصور والأفلام وأعرف عنها الكثير، ولم أتخيَّل عند ملاقاتها أنِّي سأصاب بالذُّهول! إذ تدفَّقت داخلي مشاعرُ غامضةٌ ومختلطةٌ بين الحبِّ والجمال، وأخيرًا قلت بصوتٍ عالٍ: ساحرةٌ! روما التي سأعرف أنَّها متحف الفنِّ والجمال، بل إيطاليا بكاملها، لكنِّي أتوقَّف هنا كلَّ مرَّةٍ، وأعيد تأمُّلها كأنِّي أراها للمرَّة الأولى.

مقالات ذات علاقة

زويـلـة

إبراهيم دنقو

رواية الفندق الجديد – الفصل التاسع

حسن أبوقباعة المجبري

رواية الفندق الجديد – الفصل السادس

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق