قراءات

في البدء كانت حكاية

منذ أن كان ينصت لدفء حكايات عمته في ليل الجبل الأخضر البارد ، اختار المبدع أحمد يوسف عقيلة الحكاية كوسيلة لتعرفه على العالم ، فصار مسكوناً بها ، باحثا عنها في ملامح المكان وفي شجن الذاكرة ، منصتا لهمسها في روح الكائنات الضاجة والبكماء ، في نعيق غراب يعبر الأفق كل صباح ، في أسراب الضباب تجتاح سفوح الجبال المتاخمة ، في مناجاة العشاق للنجوم ، في عواء ذئب يشق ليل القرية الهادئ .. في تجاعيد الصخر ، وإشراقة اللون في كل ربيع .

القاص: أحمد يوسف عقيلة
القاص .. أحمد يوسف عقيلة

كان يدرك أن وراء كل حركة حكاية ، وفي ثنايا كل صمت حكاية ، أو بمعنى آخر كان يدرك أن لا شيء صامت فوق الأرض ، والإصغاء لصمت الكائنات هو سر الفن ولعبته . فوراء كل مثل شعبي، أو غناوة علم، أو مهاجاة رحى أو أرجوزة منجل، حكاية .

لذلك كان عالمه القصصي مشروعا لأنسنة الطبيعة وإنطاق الكائنات التي ندوسها دون أن نفطن ، ولأنه أديب يجيد الإنصات، ومهجوس بروح البحث في المكان، كان لا يكف عن تتبع سرد الأمكنة وشعرية روحها واحتشاد ذاكرتها بالحكايات ، فبدأ سيرته مع توثيق تلك الشعرية الفطرية المهددة بالانقراض ، فجمع ما أتيح من الأمثلة والتعابير الشعبية، التي تعكس تجربة بشر استخلصوا من ضرع الحياة زبدة المعرفة، وتتبع أصداء الرحى التي كانت تدور مع شجن النساء في ذروة بوحهن الشعري ، وتتبع مواسم جز الصوف واحتفالاته المفعمة بالحوارات التي تجعل من المناسبة والأداة رموز تعبير عن ما يدور في الوجدان ، كما سافر إلى من تبقى من رواة الحكايات الشعبية ، ليجمع ويحقق، حتى يصل إلى أدق صياغة لنص الحكاية الأصيلة، باحثا عن ذلك الإيقاع الذي كان يهدهد ليل الأطفال والراشدين، وتحت عنوان “خراريف ليبية” جمع تلك الحكايات بعد أن أضفى عليها حسه الأدبي وخبرته السردية ، ومن ثم قاده الشوق للرحيل في حكايات الإنسان في هذا العالم، متتبعا ذلك الخيط السحري الذي يربط بينها ، حيث أنجز رحيل الحكاية ذلك التشابه المدهش بينها ، في زمن كان التجانس المعرفي وتخاصب المخيلة الإنسانية فضاء لحوار الحضارات ، فكانت الحكاية تهاجر كما الطيور، وكل مكان تحط فيه تقتبس ملامحه وتتنكه بطعمه .

وعبر كل ذلك اكتشف منجما لا ينضب لحبره، ومن محيطه القريب استعار تقنية “قصته” التي تحولت إلى حبكة عناق بين الأصالة والمعاصرة، بين الزمان والمكان، بين الجسد والروح ، بين الواقعة والمخيلة ، وبين القصيدة والحكاية .

مقالات ذات علاقة

أثر الصداقة في “أثر الطائر في الهواء”

المشرف العام

استقلال ليبيا 1951م استجابة النخبة ونضال الشعب

نورالدين خليفة النمر

قساوة القيد صلابة الروح.. سيرةُ سجناءٍ لعبدالعظيم قباصة

سالم أبوظهير

اترك تعليق