طيوب عربية

رواية رام الله- حين تتأوه العتبات

رواية (رام الله) للكاتب الفلسطيني عباد يحيى
رواية (رام الله) للكاتب الفلسطيني عباد يحيى

هل يمكن أن تتكلم أعتاب البيوت المهجورة؟ هل يمكن أن تروي حكايات ساكنيها أو تستحضر أرواحاً كانت تنبض حارة بين الغرف والجدران، ذلك يتوقف على ما شهدته تلك البيوت من أحداث وما ضاق بها من أسرار، ودار بطرس النجار التي تتكئ عليها رواية (رام الله) للكاتب عباد يحيى، لابد أن تحكي.. أن تتأوّه.. أن تشهق بحكاياتها لأن أسرارها أكبر من أن تحويها الجدران.

حين تفتح الصفحة الأولى، فأنت في الحقيقة تدفع مصراع باب قديم، تسمع صرير الخشب المتهالك، وطقطقة شبابيك حزينة، تقابلك حشائش متسلقة على الأرضية ومن الشقوق، تغمرك رائحة حزن.. حزن مهيب.. وفيما تظنه صمتاً مطبقاً، هنالك في الحقيقة صوت يتحدث إليك من تحت العتبات، تلك حكاية بيت بطرس النجار، حكاية فلسطين كما لم تقرأها من قبل.

 تبدأ حكاية رام الله خلال العام 2017، منذ ليلة وفاة ريما، الأربعينية الجميلة التي لا تشكو من أي عارض، تستيقظ في ذاكرة زوجها الدكتور عماد العايش فكرة قديمة تقول: “إن الله يتلطف بعاشقين حُرما الحياة معا فيميتهما في ليلة واحدة. يمنحهما تشارك الموت بعد حرمانهما تشارك الحياة”. تنتابه الشكوك بأن زوجته قد ماتت وهي على علاقة حب بشخص آخر، يحاول تفنيد الفكرة أو الاهتداء إلى ما يمكن أن يكون قد حدث، وهنالك على أعتاب البيت المهجور كان موعودا بحكاية بطرس النجار وأولاده وحكاية رام الله وحكاية ريما.

تقول له العتبة: “إذا كنا لن نخبرك إلا بما يمكن أن تجده في الكتب فما نفعنا، إننا منذورون لحكايتنا، حكاية دار النجار” ثم يعود السرد إلى زمن رجعيّ، إلى العهد العثماني في العام 1875 حيث بنى إبراهيم النجار والد بطرس، الدار وزوّج في أحد غرفها ابنه بطرس من هيلانة، فأنجبت فيها ولدها الوحيد خليل، وكثير من البنات، من بينهن نعمة، وفي اليوم الذي دخلت فيه رام الله القرن العشرين، وحيث تستيقظ رام الله مثل كل النهارات على صياح الديكة ورائحة القهوة وهدير رحي ودوران حجارة الطواحين، كانت نعمة تحمل جنيناً من زوجها الراقد في غيبوبته منذ عام كامل، لكن من سيصدق نعمة وقد مات الزوج في الليلة ذاتها، لتبدأ حياة أخرى غريبة ومشوشة في بيت النجار، سرٌ كبير تقفل عليه صدور ساكني البيت، يصبح ولد نعمة (سالم) شقيقاً لها رغما عنها لدرء الفضيحة، تراه يكبر أمامها ولا تستطيع أن تقول له (يمّا) تحاول أن تحتضنه فينزعونه من حضنها، يرهقها وجع الأمومة والحرمان والقهر، ويصبح هذا الوضع الشاذ والغريب هو نفسه وضع فلسطين التي آلت بنوّتها بشكل غامض إلى غير أهلها أمام صمت مريب.

تكبر دار النجار وتضاف إليها غرف جديدة وعتبات جديدة وتحيط بها سلاسل وأسوار وتعلوها شرفات، يحل بها ساكنون جدد جاءت بهم خطوب الحياة، ويغادرها آخرون غيّبهم الموت أو الهجرة إلى بلدان بعيدة، تغصّ بالأنفاس والحكايات والأسرار. وفي سياق أطوارها المتجددة تكبر رام الله أيضاً وتشهد تحولات تاريخية موازية منذ عساكر العصملي والانتداب البريطاني، الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الثانية، حرب 48، الإبادة والنزوح وسيرة العطش والحزن والزلزال والتهجير والغربة، الانتفاضة الأولى ثم الثانية وجدلية السلام والسلطة، تتغير رام الله وتبحث عن هويتها التي شكلها الفلاحون، وصاغها الحنين إلى  ماضي الطين ومواسم الزيتون والزعتر وخبز الطابون، العباءة والكوفية والعقال والزنار، المضافات والقرى والحواكير والحجارة المنقورة وبيوت القرميد، هذا الحنين كان أيضاً إشكالية أخرى، وتداً يدق في جدار الهوية، حيث يعيش العربي حالة نكوص دائم، ولكأن عباد يحيى يضع يديه على وجع العرب جميعاً وهم يعيشون النستالوجيا كحالة ديمومة ثابتة: “إن ما يؤخر هذه البلاد عن حاضر العالم مرضها بالحنين، كلما دخلت عصراً حنـّت إلى سابقه، ستظل هذه البلاد أبطأ ما ظل فيها الحنين،.. إن الحنين إلى الماضي يؤخر مضيّهُ والخوف من المستقبل يؤخر حلوله”. ورام الله التي تتغير مع التحولات تبحث عن هويتها فتواجه إشكالية الصورة الرمزية للفلاحين والحنين اللصيق بطعم الأرض: “ثمة تحميل مسؤولية مستمر للفلاح حتى يظل فلاحاً معبراً عن كل الرمزيات المؤسِّسة للهوية الفلسطينية، إن محاولته التخلص من واقعه الاجتماعي أو تبديله يعني تخريباً للصورة التي يعبر عنها”.

يموت سالم النجار عجوزاً في الثمانين دون أن يعرف سره، وقبله ماتت هيلانة ونعمة وخليل وبطرس النجار، وتؤول الدار إلى ساكنين جدد. في عهد الانتفاضة تصبح رام الله مركزاً لقيادة الثورة ثم مقر قيادة السلطة الفلسطينية، أما دار النجار فقد صارت المطعم الذي يأكل فيه مسؤولو السلطة، والمكان الذي يعقدون فيه صفقات النفوذ، آلاف دخلوا دار النجار، فدائيون وقادة فصائل ولصوص وعاشقون، لكنها في النهاية آلت إلى ريما زوجة عماد العايش التي ماتت بسر آخر، تنفسته كلعنة منذورة في دار النجار، وكأن قدر كل من يدخل الدار أن يضيف إليها سراً جديداً: “في كل عائلة في هذه البلاد ثمة سر يتواطأ أفرادها على كتمانه، يُمرر خفياً من جيل إلى جيل، يكبر في الدار، يوارونه تحت السجاد أو داخل المزهريات البالي لونها،. في صور الألبومات القديمة وفي الصلوات والدعوات المكتومة، والأهم في جوف النساء”.

يمكن أن نقول إن رواية رام الله هي رواية ملحمية، ليس فقط لأنها ذات حجم كبير يتجاوز 700 صفحة، بل لأن موضوعها ليس شخصية بذاتها، فالشخصيات تتحرك بمساحات شبه متساوية في التأثير والأداء (بطرس النجار، ابنه خليل، زوجته هيلانة، ابنته نعمة، ولدها سالم الذي أصبح ولد بطرس النجار، المستر مل ووديع ومعلمات مدرسة الفريندز، الدكتور عماد العايش، زوجته ريما وقلبها المتشظي الذي كان سبباً في كشف جميع أسرار الدار،) كل قصص هؤلاء تتقاطع بشكل أو بآخر في المكان، ليكون المكان هو البطل الذي يجمع مسارات الحياة ويحيلنا إلى التغيرات الشخصية لبقية الأبطال راصداً أحلامهم وطموحاتهم وعذاباتهم، كل ذلك في مزيج متناغم بين الروح والمكان، كما يمكن أن نقول أيضا أنها رواية أجيال، ترصد  تعاقب الأجيال في أسرة واحدة، ثم تصعد هذه الأسرة إلى قلب الأحداث تتفاعل مع المتغيرات الاجتماعية وتعكس اهتمامات الساكنة، وتروي حقبة حياة امتدت على مدى قرن ونصف، لتحاكم التاريخ على الفوضى التي يعيشها المجتمع الفلسطيني والعربي عامة.

ولأن “التاريخ يصنعه اللاحقون، أما السابقون فيعيشون وحسب” يصنع عباد يحيى تاريخ رام الله في هذه الأيقونة الجمالية الرفيعة، يصوغه بلغة آسرة عميقة تفيض شعرية تليق بملحمة حب ووطن ونضال مجيد.

مقالات ذات علاقة

الرحيل والحب والحلم في “نافلة الحلم”

زياد جيوسي (فلسطين)

حيفا تحتفي بمجنونِها الفاري!

المشرف العام

مرايا نثرية 1

المشرف العام

اترك تعليق