هناء قاباج
في صباح المدينة ، يحدث أن تسير على رؤس قدميك ، كي لا توقظ الموتي والمجانين والخنازير التي أكلت قذارتها بعد أن تمرغت فيها جيدا ، مدينة الموتى الأحياء الذين يغص بهم صدرُها بلا داعي، إنها تحملهم كأوسمة شرف على موت الحياة ، وغناء العصافير ، وصوت بائع السمك أيام الجمعة ، إنها أوسمة شرف للموت الرخيص المبتذل الذي يعبرك وأنت تدخن سيجارتك وتشرب قهوتك خلسة والناس صائمون عن كل شئ الإ الإنحطاط والموت .. الموت المرقّم أمامك على الشاشة ، يتدلّى من فم حسناء لا تجيد نطق مخارج الحروف وهي تذيع نشرة أخبارِ تعرف ما ستقوله مسبقا – فقد كُتب في لوح محفوظ عندما صنع الله الدمى العابسة وحدد لها مصائرها – ” قُتل اليوم 4 مدنيين برصاص مجهولون في مدينة طرابس ” فتتمنى لو أنك تسحق وجهها على الشاشة ، ليسوا مجهولين .. إننا نعلمهم تماما, نراهم أمامنا .. في المسجد والسوق والمخبز وعند بائع الخضار .. نراهم ، في المؤتمرات الصحيفة والندوات والتصريحات الحكومية وورش العمل ، في المجتمع المدني الذي يسيّره حكماء مؤتمرات الشناني والمعارق وتجمعات والجرود والفرامل وقعاد البازين ! هه .. يتبولون فوق رؤسنا مثل كلب جربان ونحن نمسح قذارتهم وندّعي أن لا شئ يحدث ، في مدينة تخترق المآذن رأسها المغطى بالشوك وكلام الله وأحلام الفقراء والمعدمين ، في مدينة القذارة والقمائم والفئران الجائعة والعيون المتحجرة ، المقابر التي خصصت للموتى – والموتى يعيشون خارجها- إنهم أقذر من أن يكونوا مجهولين ، إنها مجهولين أيتها الحمقاء ، جار ومجرور ، جرّنا رغم أنوفنا إلى نوع جديد من القتل البطئ ، إنه قتل الرغبة في الأمل ، نعيشه يوميا ونحن نعد القهوة ، ونشرب الشاي ونسير إلى أعمالنا مثقلين بوطأة العودة إلى بيوت لم تعد سوى منازل تحوم فيها مجموعة من الأرواح الجائعة إلى دفء البيوت القديم، نعيشه في حديثنا اليومي عن الغلاء ونحن نستهلك أكثر من الشعوب الأفريقية قاطبة ، في المقاهي التي تضم بين ذراعيها أحلام الشباب الجافة مثل لحم مقدد يتكاثر من حوله الذباب في صيف حار، في البيوت المليئة بالأسرار الصغيرة والتناقضات المربكة والنهايات الحتمية لوهم أنك فرد حر انعتق من رقبة القبيلة التي لم تعرفها يوما ، والتي تعيش تحت جلدك مثل ورم خبيث غير قابل للاستئصال والنزع أو حتى العلاج ، نعيشه في السيارات المسرعة التي تقطع أوصال المدينة ، في شوارعها التي لم تعد شوارع تحتضن لهاث الناس وغبار الوقت ومتعة اللحظات السعيدة وصراخ السكارى وصوت الراديو القادم من شقة في الطابق الأول ف شارع عمر المختار أو 24 ديسمبر يغني طال انتظاري لأم كلثوم ، لقد أختنقت الأغاني المنبعثة من مكان مجهول بسبب الصراخ المجنون لأبواق السيارات ، السيارات التي قتلت بصراخها متعة أن تسمع وأنت تسير في شارع الإستقلال حفيف الأشجار – والتي تبدو غريبة وسط مكعبات الإسمنت العشوائية – وأنت تسير على رصيف متهالك ملئ بالتعرجات وبصاق المارة وبقايا أعقاب السجائر التي لا تزال أطرافها رطبة مثل سمكة ماتت للتو، نعيشه في الشُرُفات المستباحة بسوء الظن ، المغلقة غالبا ، والتي لم تعد سوى مخازن لتخزين الهراء – بعد أن فقدت خاصيتها كشرفة، منها يُطل الأمل الجيد وضحك الغرباء ومواء القطط ، منها يتسرب بعض الضوء والحب المهرّب والنظرات الجائعة وتحولت لصندوق ألمونيوم جاف وبارد أو علبة كبريت معلقة في السماء ، نعيشه في المحلات التي أصبحت تنتشر فوق وجه المدينة كالدمامل البشعة ، أنت تتعثر في كل شارع بمحل استباح طمأنينة الطريق وهدوء الأرصفة التي تأكل جباهها سيارات الحمقى المصفوفة بعشوائية ، محال للأكل ومحال الملابس والماركات العالمية بأسماء مستوردة من ثقافة مختلفة تحت إسم الإنفتاح على العالم الخارجي وكونية الحياة وعولمة الإنسان ونحن مازالنا نسبح في بحر من القحط و الجهل والإنغلاق والمحدودية وهل سماع الأغاني حرام أم حلال! سألت يوما الرجل الجالس على الكاصّة ف مقهي بافاروتي ، ما هي أشهر مقطوعة غناها بافاروتي فإبتسم وحك رأسه وأجاب ، كابتشيو عادي أم زياده حليب ؟! في الباحة الخلفية للمدينة ، جهل وفقر وخرافة وعلى واجهتها وهم الحياة المضيئة وهي تمتلئ بالعيون الشبقة والبدل اللامعة والوجوه الحليقة والعبايات السوداء – أيضا مستوردة من بيئة أكثر قحطا – والنفوس المتعبة والرؤس التي يحملها أصحابها مثل حبات البطيخ الكبيرة ويسيرون بها فالشوارع على غير هدى رغم عبث الإشارات التي تختنق بها المدينة والتي تقودك إلى الأمكنة ولا تخبرك كيف تسلك الطريق. الطريق الموجود داخلك قبل أن تعتّب عتبة بيتك، قبل أن تلعن وزارة الكهرباء ووزارة التخطيط العشوائي والساسة المقامرين والباعة المجهولون الذين يصرخون تحت شرفة بيتك – التي لم تعد شرفة كما ذكرنا – وهم ينادون ” مدينة صالحة للعيش ” فتبتسم بمرارة وتصرخ في وجهي ، إنها”مجهولين ” … وأنهم ليسوا كذلك!