(هكذا صرختُ) هو الديوان الثالث للشاعرة حواء القمودي، فقد صدر قبله (بحر لا يغادر زرقته)، و(وردة تنشب شوكها).. وإذا كان العنوان هو العتبة الأولى لما يليه من نصوص فإن فعل الصراخ سيكون هو السائد على طول هذا الديوان، صراخ بدرجات وتباينات تتأرج بين الصراخ والهمس.
الديوان مجموعة مكابدات مجهولة العناوين حيث لأول مرة تُعنون القصائدُ بتواريخ إنشائها، ربما يرمز ذلك للحالة التي يمر بها الوطن فلا ثوابت ولا أمن ولا استقرار، حالة تجعل المبدع حائراً في تسمياته واختياراته وأولوياته. تقول حواء القمودي في قصيدتها:
(هذا شبّاكٌ
يفتح باتجاه الريح
هذه نافذةٌ
تُخبِرُ النسائم توقَها
هنا باب ينتظر)
10 يوليو 2019
أعتقد أنّ هذه القصيدة هي مفتاح الديوان، ما الفرق بين الشبّاك والنافذة، لماذا الشبّاك يفتح باتجاه الريح، أي يستقبل الريح بقوتها وجبروتها، بينما النافذة تتعامل بحميمية مع النسائم، بل وتخبرها عن توقها كأنها صديقة مقرًبة!!
وما قصة هذا الباب الذي ينتظر.. لا أحاول هنا أنّ أفسر شيئاً ولا أريد أن أقتل النص وأخرّب جمالياته بمبضع المشرّح، فقط هي تساؤلات قارئ ليس إلاّ…
الديوان مكونٌ من 19 قصيدة كتبت ما بين سنتي 2012 و2019، الشاعرة إذاً تتحرك في الفترة الزمنية الواقعة بين الانفجار العظيم في فبراير 2011، ذلك التغيير الذي يشبه الزلزال وبين سنوات حرب وفقر وتهجير وقلق وكراهية .. بيئة أثرت سلباً على قلوب الجميع فما بالك بقلوب الشعراء المرهفة…
المكابدة الأولى:
الحرب أخذت حيزاً كبيراً من قصائد الديوان، ويبدو أن شاعرتنا لم تشعر بخطر الحرب جدياً إلاّ عندما أصبحت على مرمى حجر من روحها، من حياتها، ومن مدينتها…
(هل هي الحرب؟
ضحكةٌ تغالبُ دموعي
وهم سميته ذات كبرياء
“حرب التحرير الكبرى” !!!؟؟؟
تصفيق.. سكوت
موتٌ يتكاثر)
30 مايو 2019
الجميل في هذا المقطع وقوع الحرب في النقطة الفاصلة بين الضحك والدموع، وترتيب أحداث الحرب بمهارة عالية وبأقل الكلمات: “تصفيق.. سكوت.. موتٌ يتكاثر“…
حواء أرادت بقلبها الطيب أن تفضح فعل الحرب، لم تلقِ بيانا تستنكر فيه فعل الحرب، لم تجرّم أحداً ولم تحمل المسؤولية لأحد، وكأن الحرب خطيئتنا جميعاً، وهي كذلك.. حواء بروح الأنثى التي تميل إلى السلام، بقلب الشاعرة الذي يتسع للوطن تتعامل مع الحرب وكأنها أخطاء إملائية في دفاتر طالباتها، تضع تحتها الخط الأحمر…
(وعدها أن الحرب لن تطول
وعدها أن فرحتهما بعد العيد
لكن الموت يبتهج
بالقلوب العاشقة
تلك الرصاصة
استقرت تماما
حيث ابتسامتها)
(تلك اليتيمة
من سيقول لها:
هذي بلاد الكلاب
فاركضي بعمرك الغضّ
واتركي شاعرة
تفكر
إلى أين أمضي؟
وهل ثمة حقيبة
تسعني و…
ال جثث…..)
4 يوليو 2019
المكابدة الثانية:
العمر هو الباب الثاني في مكابدات حواء القمودي، ليس العمر كرقم وإنما العمر الناتج عن التناقضات في بيئة العيش والتغيرات التي تطرأ على ثقافة المجتمع وأخلاقياته وطرق حياته.. حواء كثيرا ما تحن إلى طفولتها، إلى السانية وإلى (جرد) الأب وترفض هذا الواقع الجاحد القاسي المغاير، حيث ترثيه بوضوح:
(الصديقات كذبة
والأصدقاء
محض هراء
لا بأس المهزلة بدأت
وقد آن أن تنتهي)
25 يونيو 2019
(لم أعد أنا
التي قالت: أحبّك
صرت هذه التي
تنظر لوجهك
ولا تعرف
من أنت)
27 يونيو 2019
(هذا العالم
يزداد رداءة
هذه البلاد
تسحق روحي)
8 سبتمبر 2019
(فم الغياب يزرد
أيامي لقمة
لقمة
أتوكأ جملة مشاغبة
تطهو حنيني
أفرد عجينة الوقت
بظهر سكين شرسة
أقص حاشية
وأغرز أنيابي)
20 سبتمبر 2019
وينتج عن هذه المصادرة للراهـن (صرت هذه التي تنظر لوجهك ولا تعرف من أنت)، وتحديه بالفرد والقص (أفرد عجينة الوقت/ بظهر سكين شرسة /أقص حاشية / وأغرز أنيابي).. ينتج عنها حالة حنين إلى الماضي، يبدو ذلك جليا من الصفحة الأولى، من الإهداء:
(إلى أمي
”زهرة“
وهي توغل
في الغياب)
توغل في الغياب، يا له من تعبير، الغياب في فعله المضارع المستمر، الذي يأخذ في خطاه القاسية، الطفولة والذكريات ومقاومة الراهن والتمرد عليه وقصص الحب الطازجة والروح التي تتحدى.. ثم يتعدد الحنين في مواضع عديدة وفي انفلاتات غير مقصودة تتساقط عبر النصوص …
(لعل قلي
لا يزال ينبض
لعلّني تلك البنت
تبكي لوردة ذابلة)
8 سبتمبر 2019
(هذه البنت
حين كانت صغيرة
أحبت الضفادع)
5 ديسممبر 2019
جملة إنشائية تبدو في ظاهرها بسيطة جداً، لكنها مشحونة بكم هائل من الحنين لطفولتها وبيئتها، يتكرر ذلك أيضاً في المقطع التالي حيث تصر الشاعرة على استخدام الكلمات العامية ووضعها بين قوسين، (الفراشية)، و(الجرد)، حتى (الشاهي) فضلت أن توردها كما هي بدل الشاي مثلا، وكأنها تُمتع السمع بهذه الكلمات التي انتهت من حياتها المعاصرة أو تكاد…
(آآآه هذه الرائحة أليفة
“فُراشية أمي” و”جرد بوي)
يفوح (الشاهي)
والعشية فضة
والمكان سؤال)
3 نوفمبر 2019
ويتحول الحنين في بعض حالاته إلى غربة تحسها الشاعرة وتحاصر روحها حتى تشعر أنها لا تنتمي لهذا المحيط الذي ترفضه…
(مثل نجمة تائهة
أحدّث قلبي
هذه الطريق
ليست لي
هذه البلاد تسيل
من شقوق روحي)
6 نوفمبر 2019
(صرتُ عبئاً مضافاً
وركلة جزاء ضائعة)
1 ديسمبر 2019
(لكن الحلم استسلم
وضفيرتي
قصتها يد الألم)
4 نوفمبر 2019
(ثمة غصة
وضحكة مبتورة
وموسيقى)
5 ديسمبر 2019
المكابدة الثالثة:
المكابدة الثالثة الذي تؤرق حواء القمودي هي هم الإبداع، وقلق المبدع ظاهرة لا تختص بها الشاعرة، لكنه عندها يتحول في هذا الديوان إلى شبه هاجس، وقصيدة النثر هي الرمز الذي ينطوي على الروح الشاعرة برمتها…
عندما أهديتني الصديقة حواء القمودي ديوانها هذا كتبت في إهدائها، (الكلمات أشرعة، والجُملُ طيور سابحة، واللغة خدينة محبة).. لا أحد له سيطرة على الأشرعة ولا على الطيور السابحة سوى الريح، والريح ليست في يد المبدع، وحدها اللغة خدينة المحبة نحاورها ونسامرها ونخاتلها لنصل حالة الإبداع القصوى التي نصبو إليها…
إذا فالإبداع مكابدة ومعاناة، وقصيدة النثر عند حواء القمودي فضاء أوسع لقول ذاتها للتمرد على أدبيات القصائد المألوفة، مكانٌ لرمي نفايات النفس وإظهار الجوانب المظلمة منها:
(قصيدة النثر فضاء
سأحاول الغضب الركل
والقذف بسبابٍ فاحش)
ولكنها تستدرك فتصل قصيدة النثر بغربة روحها، تتخذها مطية للحنين للزمن الضائع لمحاولة التواؤم مع محيطها:
(لعلّ قصيدة النثر
فضاء حبٍّ
لعلّ قلب
لا يزال ينبض
لعلّني تلك البنت
تبكي لوردة ذابلة)
8 سبتمبر 2019
قصيدة النثر عند حواء القمودي نفسها وآخرها، تتحاور معها، تكتب عنها وتوثق إنجازاتهما معاً:
(القصيدة تراوغني
تخشى أن تندلق
ثرثرتي.
حاشية للكذب
لتزويق البياض
هل البياض جملة ناقصة؟)
20 سبتمبر 2019
والسؤال هنا إنكاري، فتوزيع السواد والبياض على ورقة النص تقنية من تقنيات قصيدة النثر، هذا على المستوى الظاهر، أماّ البياض والسواد عموماً فهما ثنائية الوجود التي لا تنتهي…
(أريد أن أكتب
قصيدةً طويلة)
4 نوفمبر 2019
من رأي يا صديقتي لا تفعلي، تقطيعاتك جميلة، وتنويعاتك تعطيك المساحة الكافية للرسم على أي ورقة وبأي مقاس، دون أن تتسلل قصيدة النثر الواشية ! إلى خزانة روحك، وتتطّلع على أسرار قلبك، رغم ثقتي بأنها أسرار جميلة وبسيطة ومنساقة على مهل مثل نصوصك الرائعة…
أخيراً صديقتي العزيزة حواء القمودي هذه ليست قراءة نقدية، هي فقط انطباعات قارئ أراد أن يرسم ابتسامة على فم وليدكِ (هكذا صرخت) ولكنه لم يستطع ذالك بمهارة كما فعلت أنت بقراءتك الرائعة عن ديواني (عمر آخر) الصادر عام 2008م.
القبة، 14/1/2021