يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحلقة: 21/ عــلم وأيــش قــــال !!!
لكى أربط الحلقات ببعضها فقد أنهيت الحلقة السابقة بشطرة من قصيدة شعبية كنت أعارض فيها القصيدة الشهيرة التي تقول
(في حال ياناشد عليناحاله
حيين لكن في حياه مذبالـه)
وكنت قد صورت فيها الحالة المتدنية التي وصلت إليها البلاد حينماخرج علينا (المفكر والقائد والمعلم) بخارقة من خوارقه التي كان يفاجؤنا بها بين الحين والحين، حيث أعلن في شكل من أشكال الكوميديا السوداء أن (الشعب هو السيد وهو الحاكم، وهو الذى يختار قياداته من بين صفوفه وبالطريقة التي يراها مناسبة)، وهذا زاد من حجم الكارثة وزاد من صب الزيت وبصور ممنهجة على نار الصراعات القبلية والمناطقية والحساسية غير المبررة بين الحضر والبدو فزادت الكراهية بين الناس وكثرت الأحقاد والصراعات بين المدن الكبيرة والمناطق المحيطة بها وبين القبائل وخرجت تكتلات غريبة وعصبيات مخجلة ما أنزل الله بها من سلطان، وتفتقت أذهان شيوخ القبائل عن أسلوب في توزيع السلطة والمناصب أسموه التنسيق، الذى لم يكن في واقعه سوى عملية تقسيم للوظائف القيادية بين القبائل بالتراضى بينهم فيكون أمين كذا من نصيب القبيلة كذا، وأمين كذا حصة القبيلة كذا، بغض النظر عن الكفاءة والقدرة والإلمام بشؤون الوظيفة القيادية (والغريب أن الكثير من المثقفين وحملة الشهادات العاليه تحمسوا لهذا المشروع وصاروا يعرضون شخوصهم وكفاءاتهم وولاءهم، ولكن قبائلهم خذلتهم ولم يتم الدفع بهم).
قلت أن أصدقائى القدامى بالكهرباء وبأسلوب عاطفي رقيق أغرونى بالعودة إلى أمانة الكهرباء، فانتقلت اليها وبحكم درجتى وخبرتى أسندت لي وظيفة (أمين خزانة كهرباء درنة)، حيث استلم رسوم استهلاك الكهرباء من المواطنين بموجب ايصالات، واودع هذا الايراد في المصرف قبل نهاية دوام كل يوم.
وبموجب التنسيق والتقسيم والمحاصصة بين القبائل، تم تصعيد أمين جديد للكهرباء كان في السابق (كاتب فواتير استهلاك)، بمنطة ما وكان شخصية غير مسئولة، استلم الإدارة وسيطر على كل أمور أمـانة الكهرباء بدرنة، وكان همه التقرب للطباعات والموظفات ومحاولة لفت أنظارهن اليه وحتى مغازلتهن في كثيرمن الاحيان والتودد إليهن.
وكان متجاوبًا معهن في كل طلباتهن حتى أنهن فرضن عليه أن يحضرن غازا وأوانى، طبخ ويطبخن فطور الضحى (أمقطع أو دشيشة) بين حجرات الأدارة، حتى أن رائحة (التقلية) يشمها الزبائن من مدخل العمارة، ويسمعون صخب البصل والقديد وسط الزيت المغلى!! ليس هذا فقط، بل كان على طاسة الشاى التي بعد الفطور يجلس بينهن ويدخل معهن في مسابقة (علم وأيش قال) (يحاسبنى الله إن كنت أدعى أو أبالغ أو أقول أشياء ليست حقيقية) ولعل رفاقى الذين كانوا معى في الكهرباء منتصف الثمانينات، يتذكرون هذه المشاهد المضحكة المبكية، وهذه الممارسات المتخلفة المخجلة.
طبعًا أصبح حال الكهرباء مترديـًا بصفة عامة، وفي درنة بصفة خاصة، وكثرت الشكاوى وأصبح الموقف محرجـًا ولم يعد يجدي السكوت عليه أو مسايرته.
وفي محاولة من هذا الأمين لمعالجة الأمر جمع كل موظفي الكهرباء في صالة مكتبه وكنت بينهم، طبعًا ووقف يخطب ويتصنع الغضب ويتباكى على الحالة المتردية التي وصل اليها قطاع الكهرباء بشعبية درنة، وطلب منا أن نقول رأينا ونساعده في الخروج من هذه الأزمه، ولحظتها (تحرك في داخلى الواعز الذى يسبب لي الكثيرمن الكوارث أثناء مواجهاتى في مثل هذه الظروف البائسة)، ورفعت يدى وأعطيت لي الكلمة حيث بدأتها ببيت من الشعر يقول:
إذاكان رب البيت لـلـدف ضاربـًا
فصنعـة أهل البيت كلهم الـرقص
وتورطت في حماستى وتجاوبه المفتعل مع ما أقوله، حيث تماديت في تعريته قائلا: أنت ياسيدى الأمين كل ممارساتك الوظيفية تؤكد أنك مسؤول غير ملتزم كمايجب، ولهذا لا تطلب من غيرك الالتزم.
وواجهته بكل ممارساته الخاطئة، وقلت له: لابد من إصلاح كل شيء بداية منك حتى أصغر موظف لكى تستقيم أمور كهرباء درنة.
أظهر أمين الكهرباء يومها إعجابه بما قلته، بل تحمس له، وشكرنى على صراحتى وصدقى وقال وأمام الجميع؛ أنه سيكلفنى بإدارة شئون الموظفين ويعطينى صلاحيات مطلقة لاصلاح ما أراه من فساد، وسارع باصدار قرار يعفينى من أمانة خزينة الكهرباء وتكليف غيرى كى أتفرغ للوظيفة الجديدة كما وعدنى.
يا الله لم أر في حياتى انسان بهذه الروح الشريرة القاسية التي كان عليها أمين الكهرباء، هذا فقد جردنى من وظيفتى لكى أكون بدون وظيفة بكادر إدارة الكهرباء (تمهيدًا لإجراء شرير كان سيتخذه ضدى، ولم أكن أتوقعه مهما كنت متشائمًا). فقد كانوا يومها يعدون قوائم الزائدين عن حاجة كل أمانة ليحيلونهم إلى مواقع انتاجية من مصانع وشركات (وهذا الإجراء من ضمن إبداعات السلطة الشعبية)، ليكون فرصة لأى أمين ليتخلص من أى مشاغب يزعجه أو يعترض على تصرفاته غير المسؤولة فانتهز (أمين الكهرباء)، الفرصة ووضعنى في رأس قائمة الزائدين عن الحاجة باعتبار أنني لست مصنفًا على اى وظيفة ولا مكان ولا عمل لي بأمانة الكهرباء.
وتم إحالة الكشف بصورة سريعة مشبوهة لامانة الخدمة العامة صاحبة الحق في التنسيب وبإتفاق أمين الكهرباء مع أمين الخدمة العامة تم تنسيبي (وحدي دون كل من في الكشف)، أقسم بالله وأحالوا ملفي إلى (شركة المواشى واللحوم).
هناك تفاصيل لا أريد التطرق إليها، وأشخاص لا أريد ذكر أسماءهم احترامـًا لسنوات رفقتى معهم ولا أريد الاطالة. المهم أنني بين غمضة عين وانتباهتها، وجدت نفسى أجلس على كرسى في مكتب شركة المواشى واللحوم، وأمامى سجل أدون فيه إنجـازات الجزارين بالمدينة وما تم بيعه من (إحشاء خارجية) ووطنية وسقايط وجـلود ورؤوس، وعلى مكتب يقابل مكتبي، تجلس موظفة مصرية تطرقع (اللوبان) تحت أسنانها بصورة تجعل جسدى كله يقشعر من هذه الطرقعةالمستفزة المثيرة.
دعونا نتوقف في هذه الحلقة عند هذا الحد.. وفي الحلقة القادمة، سنتحدث عن انتقالة ثالثة فيها عجائب وغرائب، هى أيضـًا..
فإلى الحلقة القادمة إن شاء الله.