يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحلقــة: 15/ لا تــفـقــدي حــبيبــتي الـرجـــاء
كان (عمر دبوب) و(محمد بن سعود) الذين تم شنقهما ظهيرة يوم من أيام أبريـل 1977م وسط ميدان الكنيسة ببنغازي و(عمر المخزومي) ورفيقه المصري الذى معه، و الذين أعدما شنقـًا فوق رصيف ميناء بنغازي في نفس اليوم والتوقيت، هم أول ضحايا القذافي في ليبيا، إضافة إلى الكثيرين ممن تمت تصفـيتهم في ما بعد، في كل أصقاع الدنيا بأوامره وعلى أيدى لجان إجرامية شكلها من مجرمين متمرسين في الجريمة لا يعرفون الشفقة ولا الرحمة، إضافة إلى فرق إعدام عسكرية قامت وبناء على أوامره واختياره بإعدام الكثير من الضباط الأبرياء رميـًا بالرصاص في ساحات مقرات كتائب الجـيش وزملاءهم يتفرجون عليهم، بل منهم من طلب منه القذافي أن يشارك في فرق التنفيذ ليقـتل أصدقاء دفعته نكاية به.
كل هؤلاء استقبلوا الموت ببسالة ورجولة سجلها لهم التاريخ واحتسبوا شهداء عند الله، إن شاء الله، أما الذين كان نصيبهم أكثر قسوة وأبشع انتقامـًا، فهم أولئك الذين صدرت بحقهم أحكامـًا محـددة بالسجن فمزق من حقده هذه الأحكام وقال مقولته الحاقدة (هؤلاء لن يخرجوا من سجونهم ما دمت أنا على وجه الأرض)، ولعل الكثيرين منهم ممن بقوا أحياء بعد مذبحة (بوسليم) أخرجهم ثوار وشباب ثورة السابع عشر من فبراير 2011م، وهم يهدمون أبواب سجونه الحديدية الضخمة ويهتفون (ارفع راسك فوق أنت ليبي حـر).
أقول ما أقوله الآن! وأنا أستعيد ذكرى اليوم الذى صدرت فيه علينا الأحكام من خلال محكمة رسمية وبحضور بعض أهلنا وبتوفير كم مناسب من المحامين وبتأكيد التهمة من خلال المستمسكات والاعترافات، وقد تم الافراج فعلا على من حوكموا بعام واحد خلال شهر مايو 1968م، حيث ودعناهم في مشهد عاطفي مؤثر، وبقينا نحن في سجن (الحصان الأبيض) نعامل معاملة خاصة كمساجين سياسيين، كان كل شيء متوفر في السجن، فقط عدم قدرة أهلنا على زيارتنا هوما يؤلمنا حقـًا لبعد المسافة، ولعدم توفر وسائل النقل في ذلك الحين (كانت وسيلة النقل الوحيدة هي الحافلة المخصصة من شركة الحافلات البرقاوية للنقل)، والتي تقوم برحلتين أسبوعـيًا بين طرابلس وبنغازي، ولهذا كان أغلبنا نحن القادمون من الشرق قد فقدنا الأمل في مثل هذه الزيارات، وكانت إدارة السجن تقدم لنا نموذج رسالة في صفحة واحدة نكاتب بها أهلنا ويتولى السجن إرسالها بالبريد تحت إشرافه، وحتى ردود الأهل تأتينا في زنازيننا مختومة بما يفيد أن ادارة السجن قد راقبت واطلعت على الرسالة، في الواقع لم نكن نكتفي بهذا الأسلوب المحدود الذى لا يشبع نهمنا في التواصل مع أحبابنا في الخارج، حيث أبدى حراس السجن تعاونهم معنا في هذا المجال، فصرنا نكتب الرسائل المطولة إلى أهلنا ونعطيها لهم ليودعونها في البريد على نفقتهم و من وراء رقابة إدارة السجن، وفي ضحى يوم من الأيام جاء أحد جنود الإدارة ونحن في فترة الآريا (الاستراحة) وصرخ فينا:
عبدالحميد بطاو…زيارة
ومدلى الورقة التي بها اسم طالب الزيارة، فإذا بي أجد أنهما الوالد والوالدة؛ يا الله، يا لها من مفاجأة رائعة حتى أنني كنت وأنا أركض وراء الجندي أعيد التحديق في الورقة غير مصدق.
ودخلت عليهما في الحجرة المخصصة للزيارات واحتضناني باكيين، وبعد التسليم والسؤال عن كل العائلة لاحظت أن اثنينهما تلعثما وارتبكا حينما سالتهما عن الزوجة، ووجدت والدتي تقول لي حاسمة الأمر كعادتها دائمـًا في مثل هذه الأجواء المرتبكة الحزينة:
لازم تبقى راجل وتتحمل.. زوجتك خذاها بوها من حوشنا.. ويبي يرفع عليك قضية طلاق عليشان حبستك.
انتهت مدة الزيارة وغادرا الوالد والوالدة طرابلس، بينما جلست ليلتها مذهولا سارحـًا وقد حاصرتني لحظة تجل لم أستطع الفكاك منها، واختلط عندي في تلك الليلة مفهوم الأم والزوجة والأرض والوطن والحرية، ووجدتني أكتب في ساعة متأخرة من الليل وعلى بهرة الضوء القادم من شباك الزنزانة قصيدة كانت نزيـفـًا مؤلمـًا في ليلة من أقسى ليال السجن.. أقــول في بـدايتـها:
حبيبتي والليل يعصر الفؤاد في البعاد
وقد كبى بنا في دربنا الجـواد
وانطفـأت شموع عيدنا الحزين
وانكسرت كؤوسنا من قبل أن نشربها
وأجهضوا فرحتنا من قبل أن نعربها
وداسـوا في حقـولنا زهـور الياسـمين
فإننا نزداد يا حبيبتي عــناد
دعونا نتوقف هنا وسنكمل القصيدة في الحلقة القادمة، ونتحدث أيضـًا عن انتقالنا إلى سجن درنة بعد ان تحـقـقت مقولة (رب ضارة نافعة).. فقـد كان انتقالي إلى درنة لظروف غير عادية.