استطلاع : مهنَّد شريفة
نُشر في الصباح الثقافي بتاريخ 12 نوفمبر 2019م
لطالما كان للأديب والكاتب الليبي مساهمات جليّة وواضحة في أجناس الأدب والفكر والفلسفة ، أثرى بها المكتبة الليبية والعربية يصنوف شتى من الأعمال الجادة والرصينة ، شكل بواسطتها ملامح المشهد الابداعيّ المعاصر ، ولعل الذاكرة في هذا الصدد تستدعي أقلامًا نيّرة كان ولازال لها بالغ الأثر في حياتنا الثقافية ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد خليفة حسين مصطفى في الراوية ومحمّد الشلطامي في الشعر ، لذا من المحزن ألا نصادف في المكتبات العربية أي كتاب يحمل توقيع أديب أو روائية ليبية ! في مقابل ذلك هنالك سؤال يُلح علينا وهو لماذا بقي الكاتب الليبي سجين حدود الجغرافيا بينما آفاق التاريخ مفتوحة على مصراعيها ، لاسيَّما ونحن نعيش عصر العولمة وثورة الاتصالات التي جبَّت ما قبلها وبتنا بفضلها نتجاوز تعقيدات الأمس البعيد …
مع العلم أننا لا نستطيع أن ننفي نجاح تجربة بعض الكتّاب الليبيين في تخطي حدود المحلية وتجاوزها لما هو أبعد ، كابراهيم الكوني والصادق النيهوم وقبل فترة قصيرة شهدنا ظفر الروائية الصاعدة -كوثر الجهمي- بجائزة “ميّ غصوب” للابداع الأدبي ببيروت عن باكورة أعمالها “عايدون” إنما تظل هذه التجارب محاولات فردية من قبل البعض يغيب فيها العمل المؤسّستي المنظّم …
ومن هذا المنطلق نتساءل من المسؤول عن تأخر الكاتب الليبي حتى اليوم في الانتشار عربيًّا على الأقل ؟ هل ثمة حواجز تعوقه تتصل بعلاقته الجدلية بالسلطة ومؤسساتها ؟ هل لظروفه النفسية والاجتماعية عامل مؤثر في ذلك ؟ هل لدى الكاتب الليبي مشروعًا حقيقيًا يعوّل عليه ؟
طرحنا تساؤلنا هذا على نخبة معتبرة من الكتّاب والمهتمين بحركة الابداع والثقافة في بلادنا وخرجنا بهذه الآراء.
كوثر الجهمي : كاتبة وروائية
محكوم على الكاتب الليبي بالعزلة، فكتبه إن ابتسم له الحظ وتمكن من طبعها داخل وطنه فهي لا تصل للقارئ العربي، والعكس صحيح.
الكاتب الليبي معزول عن القارئ العربي ما لم يملك بعضًا من الحظ والكثير من المال ليتمكن من الوصول لدور النشر العربية المعروفة، لا يدفعه لذلك إلا ضعف دور النشر الليبية القليلة، بُعدها عن سوق النشر العربي، وشُحّ إصداراتها، منذ عُرفت، وزاد الأمر سوءًا في السنوات الخمس الأخيرة مع حرمان الليبيين من معارض الكتب العربية.
أضف على ذلك القيود والإهمال الذان عرفت بهما الهيئات الثقافية التابعة للدولة، والتي تمتلك مخزونا من المخطوطات المهملة تحت بند “الرقابة والمراجعة قبل الموافقة بالنشر”! لهذا، لا يعول الكاتب عليها، اللهم إلا إذا كان شخصية اعتبارية في الوسط الثقافي، أهلته خبرته وطول باعه في العمل الصحفي الى ذلك.
أما الكُتاب الناشئين، فليس أمامهم إلا طريق واحد، عليهم وحدهم أن يُعبّدوه بأنفسهم، بالسعي، والكثير من الصبر، فرحلة إصدار كتاب عندنا لا تنتهي بنهاية كتابة ومراجعة الكتاب؛ بل تبدأ عند هذه النقطة.
جهاد عويتي : مدوِّن ومهتم
في المقام الأول، أعتقد بأن السبب اجتماعي اقتصادي ثم اضحى على عهد القذافي سياسياً، ولتبيان ذلك، فالمسألة لا تنحصر في فئة الأدباء وحسب، بل تنسحب أيضاً على الفنانين بجميع ألوان فنونهم.
إذا نحن إزاء عوامل متعددة تعيق انتشار المبدع الليبي ليس اقليمياً أو عالمياً، بل حتى محلياً.
هدى الغول : شاعرة وكاتبة
جب أن نثير مسألة مهمة وهي أن النسبة الأغلب من المبدعين في بلادنا دوغمائيين ، فهم بين أبواقٍ مؤدلجة وبوتقاتٍ لتأجيج الفتن، وبين أطرافٍ فعّالة في الصراع المستميت المميت، وتبقى نسبة ضئيلة هي الصفوة المتمثلة في المثقف أو المبدع النخبوي والذي أراك تخصه بهذه المسائلة..
علينا أن نعي أولاً أن هذا الغياب ليس مطلقًا وإنما نسبي ، وأرى أن له أسبابًا سأطرح منها:
• تخبط الدولة وتقلباتها الجذرية في أدوات الحكم ؛ فمن الاتوقراطية إلى الثيوقراطية ، وأخيرًا إلى الكليبتوقراطية، وبالطبع هي الدولة المنتقلة من دولة قمعية إلى دولة وهمية وهمجية ، ناهيك عن التشذر المقيت
أحيانًا يكون التهميش هو أحد الأسباب، أعني التهميش الداخلي والخارجي
• غياب وظائف الدولة كالتأمين والأحوال المدنية (البعض لا يملك جواز سفر)، الاتصالات والتواصل مع العالم العربي ربما يأخذ عامل الندرة لأسباب اقتصادية منها عدم توفر الخدمات(الكهرباء- الإتصالات ) بشكل يناسب المواطن
تعارض العقل المبدع مع الأفكار السياسية السائدة في الدولة والمجتمع.
لعوامل التي أثرت في هذا الغياب:
العامل النفسي : من الطيب أننا مازلنا نحافظ على عقولنا حيال ما يحدث في بلادنا ، وما نمر به هو أَمّرُ ما يمكن أن يذوقه إنسان ، فما شأن المبدع ، قد يبدو الوضع محزنًا ومخزيا أن تتقاتل فئتان من أجل السلطة والثروة، لكن الأدهى والأمر أنهما ينتميان لبلد واحد ودين واحد وعرق واحد والأعراف نفسها….
مؤخراً رأيت في أحد المعارض لوحة لفنان شاب رسم فيها شخصًا يطلق النار على ظله وكتب على حافتها “آخر ليبي” وهذا ما يجسد المأساة بحذافيرها .
إني أرى الليبي الذي يقتل الليبي إنما يصوب البندقية على نفسه في المرآة، فإن لم تصبه الرصاصة، ستطالته الشظايا، باختصار نحن نباد بشكل ذاتي، ونستنزف كل قوانا الحيوية تحت سلطتين متناحرتين على الحكم، لا شك أن يعارضهما المبدع النخبوي والذي يستشف مآل هذا الصراع وعواقبه وإن بدت الآفاق ضبابية للجميع.العامل الاجتماعي: المجتمع الليبي يملك عقلاً متأخرًا عن المجتمعات التي تحيط بهِ، هذا العقل الذي كان مغيبا بشكل طوعي، وأصبح وعاءً يصب فيه كل فكر أيدلوجياته على حسب قوته وشعبويته، أضف لذلك أنه يملك عاطفة مندفعة وانفعالية تجعله يتعلق بالأفكار بشكل متصلب وخطير، المبدع الذي يعيش في هذا المجتمع بإدراكه المتحضر ووعقله الواعي يعيش غريبًا وغالبًا متوقعقًا على ذاته، لأن وعيه يبدو مخالفًا لأفكار وثقافة هذا المجتمع، فضلاً عن ذلك السلطة الأبوية التي قد تكون عائقًا كبيرًا للمرأة أو الأبناء الذين قد تراهم العائلة أو القبيلة ضالين عن عادات وتقاليد يُرفع فيها سهم المحافظة والتمسك بالدين كفضيلة اجتماعية وليس كعقيدة تربوية أخلاقية وروحية . ولعلي أشير هنا إلى أن المرأة المبدعة هي الأشد تضررا بهذه السلطة العامل الاقتصادي: ما تملكه اليوم من مال أو ثروة يمكنك أن تتخلى عنه لاحقًا… إن تجفيف مصادر دخل المواطنين بطريقة مسيسة جعلت المبدع يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على مشروعه الذاتي ؛ إذ ينقصه الكثير من الثروة التي من شأنها أن تجعل مشروعه الإبداعي قيد التنفيذ، وتثنيه عن التفكير بالطيران بطموحاته إلى بلدان عربية تستخدم العملة الصعبة في الطباعة و النشر، إضافة إلى غلاء المعيشة في الوطن العربي يمكننا أن نشير أيضًا إلى ارتفاع تكاليف النشر التي قد تُعجّز ميزانية المبدع، أما من جانب الدولة الليبية فهي لا تنفق على خدماتها إلا كرهًا، فكيف سيكون لها مخصصات مالية لإنتاج الثقافة بشكل عام، هذا فضلاً عن سياستها التجويعية التي تمارسها على المواطن الذي يرى في الكتاب خيارًا مستبعدًا من قائمة مشترياته.
.العامل الحسي الأمني: المبدع الذي يرى نسب ضحايا الحرب المتزايدة في بلاده، ويشهد الفوضى في أمنها الوقائي، يستشعر أن الآمانَ ينحصر في حيزٍ ضيقِ المدى، وبأنه أيضًا ضحية لتلك الحرب،ولكن من نوعٍ آخر.
يبقى المبدع رهينة للظروف المحيطة به والإشكاليات التي تعيقه عن الطيران، إلى أن يجد مناخًا يساعده على التحليق دون أن يحترق أو تتقصف جناحاه
عليّ المقرحي : كاتب صحفي
دعني أخبرك مباشرة بدور المؤسسة التي يفترض أنها قامت لتخدم الثقافة والمثقف وهو محبِط ومثبّط للمبدع لما يتميّز به الدورالمؤسّسي من تخلّف وجمود واكتظاظ بالعقم ، فالمؤسسة عندنا تفتقر إلى الحد الأدنى من نزوع التجاوز والتطور، ناهيك عن الطموح وما إلى ذلك ، إنما تغدو معول هدم وعقبة عرقلة لكل توجه تطوري إبداعي، لتنتهي إلى أداة تأسيس للنكوص وتكريس للجمود والتحجّر .
نرى ذلك في قصةر مؤسستنا الليبية بشكل عام (المعرفي والعملي) على السواء وفي ضيق أفقها وتحجّرها عن استيعاب المغاير والمختلف والذي لا يعني إبداعيًا بالدرجة الأولى إلا ما ينتهي إلى الارتقاء بالمؤسسة ذاتها بكسر قيودها وإرسائها وتمكينها من الارتقاء والتحليق ، تخشى المؤسسة التقليدية الاقتراب منها – ناهيك عن التفكير في اجتياز عتباتها والولوج إلى حرمها ، وما تلك الخشية إلا بسبب الحِمل الذي ورثته عن زمن ظلاميّ ماضٍ ، وعن تجهيل استبطنته وهنا يتخلل نسيجها ويتحكّم فيها الكيان في واقع تسوده مؤسسة هذا شأنها لن يكون الابداع إلا مغامرة(وهي محمودة في كل الأحوال ) وفعلاً انتحاريًا بكل المقاييس، ولأننا لا نتحدث خارج إطار هذا الواقع فلنهنىء المبدع الليبي الطامح للارتقاء بمجتمعه عبر إبداعه وإلى الامتداد خارج وطنه ليكون إبداعه مساهمة في مسيرة التقدم الانساني أن نهنئه إذ لم تجرؤ المؤسسة (على الأقل) على تجريده من أدواته الإبداعية بداية من قلمه وفرشاته وإنتهاءً بعقله وضميره.