قصة

الـشـرف

من أعمال التشكيلي عبدالرزاق الرياني.
من أعمال التشكيلي عبدالرزاق الرياني.

كنت أعيش في أحد أحياء مدينة (بنغازي) القديمة.. كان يدعى حي (الصابري) كانت الحياة تسير برتابة لا شيء في الجوار يمكنه أن يغير شيئاً.. فلا حركة ولا حراك بعد أن يرخي الليل سدوله وتغرق المدينة كلية في الظلمة فلا مصابيح حول الشوارع تنير الطريق للناس وكانت كل الأضواء خافتة منبعثة من مصابيح الكيروسين أو زيت الزيتون كوقود.. تتسرب من خلال نوافذ البيوت الغارقة في العتمة… كان الليل بالنسبة للمدينة هو العدم التام لسكانها فلا حركة ولا حراك وسط المدينة حتى وجوه الصباح.. كان يقال عن الليل سكن العفاريت والنهار سكن الملائكة.. كان معظم سكان المدينة يلفهم الفراغ بردائه… فعند غروب الشمس تغرق المدينة في سكون تام… تماماً عندما تزور أحد المقابر ليلاً… فلا يسمع في جنبات بيوت المدينة القديمة سوى همسات تنتقل بين البيوت من هنا وهناك…

كان كل ما يروى داخل تلك الجدران ما تحمله عجائز الحي اللاتي لا عمل لهن سوى الانتقال من بيت إلى آخر… ينقلن أخبار الجيرة وكأنهن صحف اليوم… لكسب حظوة لدى ربات البيوت للحصول على لقمة عيش أو حتى الحصول على بعض الدراهم… فتلك العجائز لا عائل لهن سوى ما يجود عليهن من الأسر الكريمة من الجوار التي كانت مصدر العيش الأساسي لهن… لقد كن يتفنن في سرد القصص أكثر من غيرهن من النسوة… وتراهن يتفنن في السرد وكأنهن شخوص على خشبة المسرح… وتراهن وهو يمثلن الدور وكأنهن صانعات الخبر… وكانت النسوة المستقبلات لهن يسرهن الاستماع إلى أخبار الفضائح أكثر حول الجيرة من غيرها من الأخبار الواردة إليهن… إنهن يظهرن شوقاً كبيراً إلى تلك الأخبار… في الواقع هن يتلذذن بشيء من الحماس الكبير شوقاً إلى المغامرة لإثبات الأناـ فهن يرين فيها متنفساً لغرائز مكبوتة قد سورت بذلك القعود ما بين أربعة جدران… فتلك النسوة لا يخرجن من بيوتهن إلا في حالتين الزواج الى بيت الزوجية أو الوفاة…

فقد ضرب عليهن الحجاب منذ نعومة أظفارهن… فهن لا يتلمسن الضوء إلا مع انفلاق الصباح… فالمرأة في حينا حرمة لا يجوز حتى التلصص عليها أو حتى الاقتراب منها فهي دائماً مقرونة بالعار… ولهذا ينعتونها بالعورة… بل يذهبون إلى أكثر من ذلك لتكون أختاً للشيطان… وليست أختاً للرجل… وخطيئة المرأة لا تغتفر دائماً والمقابل دائماً سيف الجلاد…

كانت من بين تلك القصص المسرودة والتي شدت انتباهي أكثر.. تلك العائلة الصغيرة التي كانت تسكن أعلى الشارع… كانت تلك العائلة تتكون من زوج وزوجة دون أولاد لهم… أي لا أولاد من حولهم… كنا نرقب جيداً تحركات تلك الأسرة لأنها ولدت لدينا فضولاً عن غيرها من سكان الشارع… كان رب الأسرة رجلاً ضخم الجثة يتميز بشارب عريض… ظلت صورته عالقة في ذهني دون أن تنفك عن مخيلتي.. ولعلي أذكره إلى الأبد من هول الفاجعة التي حلت به دون غيره من سكان الحي… كان ذلك الرجل غريب الأطوار أو هذا ما كان يبدو لي… كان دائماً يطرق الشارع وحيداً جيئة وذهاباً.. وكان دائماً يلوذ بالصمت لم نره قط يتحدث مع الجيران أو يسامرهم خلال قعوده في ذلك الشارع… كانت عيناه تتلصصان أركان الشارع في وجل وكأنه يرتقب شيئا مفزعا حوليه.. كنت أتحسس وقع قدميه وهى تصدم بشدة على رصيف الشارع و كأنه مع عراك معه.. كان جسده يتحرك وسط الشارع منفرد القامة.. كان لا أحد يعرف اسمه من بين سكان الشارع.. كان يكنى (بأبي شارب).. فكان الميزة التي تظهر على وجهه وتميزه عن بقية السكان فقد كان مجهول الهوية.. لا أحد يعرف كنيته.. وظل مجهول الاسم طوال أقامته في الشارع بيننا..

كنا نراه دائماً يتجنب اللصاق بسكان الحي.. لا يجالسهم إطلاقا وكان دائما يلتفت يمنة ويسارا خشية من أن يهاجمه أحد.. كان يعتريه نوعا من الخوف لعل أحد يكتشف شخصيته.. كان دائماً تراه يسير بزهو في مشيته وكان يفرد قامته ولا يتردد في فرك شاربه بأصابعه وكأنه يفتل حبلاً.. كان شديد الاهتمام بذلك الشارب.. فالشارب في بلادنا رمز للفحولة والرجولة.. لعله الشيء الذي يميز الرجل عن المرأة.. ولازلت في حيرة من أمري.. لماذا البعض يطلق الشارب؟ كان لا جواب..

الرجل كان يعيش وحيداً مع زوجته والتي لم نشاهدها قط حتى أن تطل بوجهها من فتحة الباب… كان الرجل قد دفع بها في سجن داخل البيت… لم نرها إطلاقاً تزاور إحدى عائلات الحي… أو حتى أقاربه يزور بيته… كان بيته يلفه سكون مطبق وكأنه سكن الموتى… كنت ألمح تلك المرأة بين الفينة والأخرى عندما أصادف طلعتها من خلال فرجة البيت… كانت ذات محيا منكسراً… وكأنها قد أتت عليها السنون… وكان الصمت يطبق عليها.. وكنا نشاهد ذلك البيت وكأنه قبر مطبق.. فيما أشاهده كانت تلك الأسرة معزولة عن كل شيء عن الناس والجيرة والأقرباء.. كان (الشارب) رمزا ذو تقدير عال بين سكان الحى فالشارب في حينا كان رمز الرجولة والفحولة ولا يحمله إلا الرجل الذي لا يداس له على طرف… وحدهما عيناه اللتان أثقلهما الحزن والألم تجوسان النظر في الناس في خشية أو خوف منهم أو لعلهما تلعنان كل من حولهما…

لقد تخلى الرجل عن كل لباس ماعدا لباس الشرف الذي ظل ملتحفاً به بقية حياته منذ ذلك اليوم الذي أطبقت يداه على عنق ابنته الوحيدة لظنه أنها أخطأت؟!! أو غرر بها أحد الشبان وقام بانتهاك عرضها… قد يكون ذلك أو لا يكون… فالمرأة دائماً تحمل إصراراً على عدم البوح ما يدور في ذاتها… فهي في العادة وفي مثل هذه المواقف لا تنفي عن نفسها تلك التهمة حتى وإن تعرضت للموت وحتى ان لم ترتكب ذلك.. فهي تتلذذ بالصمت حتى وأن تعرضت للضرب.. لعل الزهو يدفعها بأن وراءها رجلا أعجب بها.. لا ندري تماماً لماذا؟!! جريمة هتك العرض لا تغتفر في بلادنا بالنسبة للرجال خاصة، يقابلها دائماً سيف الجلاد.. والمرأة دائما هي الضحية..

لقد نصب الرجل نفسه على المرأة في بلادنا بأنه الحكم والجلاد معاً إذا ما مس شرفه.. فالجريمة توسم الرجل بالعار اللهم إلا إذا ما أقدم على القتل لمسح العار كما يقال عندنا.. الواقع أن ذلك الرجل قد خسر المعركة وهكذا ما يبدو في تصرفاته الغريبة، معركة لم يهزم فيها أحد سوى ذاته.. لقد ظل طوال حياته كلوح زجاجي تهشم دون أن تتناثر شظاياه.

ذات يوم افتقدنا ذلك الرجل المزهو بشاربه، لم نعد نراه في الجوار.. لقد جرنا فضولنا للتساؤل عن غيابه.. فأدهشنا الجواب بأن ذلك الرجل قد مات منذ أسابيع خلت.. استغربنا الحدث.. فنحن لم نسمع صراخاً أو عويلاً حينما تحصل في حينا حالة وفاة لأحد الجيرة.. ولم نشهد مأتماً مقيماً كما تجري العادة في بلادنا.. لقد غاب الرجل وحيداً وغريباً عن أهله وجيرانه وكذلك عن نفسه.. مات من أجل فكرة هو ذاته لم يكن يعتقد بها.. لقد ظل شبح ابنته يطارده حتى الموت.. كان لديه شعور بأن يديه هي التي قبضت على روح ابنته الوحيدة وليس هو الذي ارتكب الجناية.. لقد عاش بقية حياته جسداً دون روح.. فهو لم يعش وجوده قط.. كان يحمل اللعنة فوق جسده حتى القبر.

(هذه القصة لا تنفك عن سردها الواقعي في مدينتي)

مقالات ذات علاقة

من قصص طوفان درنة

عبدالعزيز الزني

أهجـوس هطـول الرماد

آمال العيادي

جان.. في حينا ؟؟

سعد الأريل

اترك تعليق