هدايا الشعر تتهاطل و(الدقلة)
صوت طفلة تنادي أمها (يام نمنة)، هكذا وأنا أحاول لملمة شتاتي ومحاولة المشي الحثيث في حكاية السيرة، أسمع صوتها الرائق (يام نمنة)، وكنت أتصفح هدايا الشعر التي هطلت في الأسبوع الماضي، قبل أن يعلن فبراير الرحيل بيومه التاسع والعشرين الذي يجعل من عامنا هذا 2020م عاماً كبيساً، لكن خفة الشعر حلّقت بأجنحة الكلام في فضاء الصداقة، صديقنا البهي الشاعر الذي يسبك الكلمات وينشئ الصور فتغدو قصيدة مختلفة، هو “المهدي الحمروني” (محيا راودته الآلهة للنبوة) و(من بقايا الليل) مع عذوقٍ تفيض حلاوته لتحيل مرارةً نكابدها إلى هطول محبة نفيء ظلها.
أمّا حكاية ديوانيّ الشاعر “جمعة الموفق”، فقد صارت مثل حكايتنا الشعبية (خرافة أم بسيسي)، من دار روافد بمعرض القاهرة إلى طرابلس، ثم لقاء عَجُولٌ في (دار الفنون) ولكن غاب الديوانان ولتكون الحكاية مجدولة بالقلق يحضران بيوم آخر ليد صديق للموفق الذي وعد أن يكونا هنا بعد أيام… ولكن ثمة (في الأفق عصافير معادية.. في الأفق طيور سود).
ووو، مرّ عام إلا بضعة أيام وصديق كريم يجعل للحكاية بداية وليكونا في (مكتبة المعارف) عند (عمي رجب الوحيشي)، (مهابة الغائب) و(مأدبة لبكاء مُرّ) أخيرا بين يدىّ.
ما الذي تواريه الحكاية والحرية سمّة عام (1988)، خطواتي الواثقة و”مظفر النواب” يفتتح العام، ثم نصحو بيوم ربيعي، والنشيد الصادح:
أصبح الصبح
فلا السجن
ولا السجان باقٍ …
وجدار يسقط وساحة سجن مكتظة، موج من الحنين وبحث أحضان ودموع.
3/3/88يكمل عامه الثاني والثلاثون، وسأعرف لاحقا أنه أيضا يوم ميلاد صديقتي الشاعرة “عائشة إدريس المغربي”، إذا يا “عويشة” كل عام وأنت شاعرة متألقة وإنسانة شفافة، وكل عام والصديق المبدع “فتحي نصيب” رافلا بالحرية هو وكل الأصدقاء الذين صاروا في حياتي مثلا للتوهج والإبداع والتدفق.
كان لقائي مع (أحمد الفيتوري، وإدريس بن الطيب، ونورالدين الماقني) في خريف 1988 نوفمبر تحديداً وطرابلس تحتضن (المؤتمر السادس عشر للأدباء والكتاب العرب)، الذي انتظم في (قاعة الشعب). لا أتذكر كيف تعرفت عليهم، ولكن ببساطة صرنا أصدقاء، “أحمد الفيتوري” يكسر حاجز الغياب يتحدث كأنه كان البارحة هنا، و”إدريس ابن الطيب” كما سأعرفه لاحقا، لاذع ومشاكس ومشتاق لطرابلس، فتكون رحلة مسائية بالسيارة و(كورنيش طرابلس) وبحرها، ثم بيت وسيدة وقورة تأخذه بالأحضان، كان الليل يوشح المكان، أتلهي بالنظر للحديقة ولكن الصوت يجذبني فأنتبه لتلك السيدة، وأعرفها فأركض إليها لأحضنها قائلة “ماما خديجة”، نعم كانت تلك السيدة “خديجة الجهمي”، وكان بيتها في طرابلس، وكان ذاك أول وآخر لقاء بها.
“نور الدين الماقني” هادئ ورقيق وحكاية المظاهرات في جامعة طرابلس، و”أحمد الفيتوري” يشاكس (مازال فيه حد يعطي صورته) معلقا على صورة أهداني إياها “الماقني”، في ذاك المؤتمر التقيت بالشاعر “محمد على شمس الدين” وأيضا بالشاعر “شوقي بغدادي”، واستمتعت بالشعر في أمسية مغسولة بالمطر، وظلت صداقتي؛ للفيتوري وابن الطيب والماقني، ترفدني معنويا حتى هذه اللحظة، وكان تزامن حريتهم و تلك القفزة التي وثبتها تلك المعلمة “حواء” مثار بهجة لي، أنا هذه التي مازالت تقرأ وتملأ كراساتها بالكتابة، لأني توقفت عن الكتابة أو كما أظن عن نشر ما أكتب منذ عام1985م، وكانت صحيفة (الجماهيرية) قد أصبحت في مكان آخر (وأظن حيث مطابع الثورة). أتذكر مساء ما ومقالة كتبتها وذهبت لأسلمها، و أيضا مكالمة من ذات الهاتف الذي أمليت منه مقالتي الأولى في 1982م، و ثمة من يرد على المكالمة وأمليّ ما كتبت، وتحديدا كانت تلك آخر ما نشرت، توقفت لأن الأحداث المتوالية كانت من القسوة والجنون الجمعي ما يجعل من هذه الحالمة تخرس، حفلات الشنق و(معهد عشرة مارس) القريب من بيتنا وأبي (الذي يخاف الحكومة ويستجيب لأمر حضور الشنق)، وكان شهر رمضان ما زلت أتذكره واجفا بوجه مصفر يخبرني (شنقوه يا بنيتي شنقوه) وكان الشهيد “عثمان زرتي”، هو عريس ذاك اليوم أما حكاية الثمثيل بجثته ووضعه في (سيارة القمامة) والطواف به في (سوق الجمعة) فهي ستظل وصمة عار لن تمحى، وبيته الذي تهدم وابن أخيه وزوج ابنته الذي سجن ثمانية عشر عاما (توفي رحمه الله نهاية عام 2019).
هل فقدنا البوصلة؟ سؤال يواجهني ونحن في خضم ما نعيش!!
يا عام 88
عام يفتتح بأصبوحة الشاعر مظفر النواب في 1/6، ثم يكون شهر مارس (حينذاك أصبح اسمه في ليبيا الربيع)، ويهدينا (أصبح الصبح)، ثم ومن خلال تعرفي على الشاعر “أحمد الشريف”، من درنة الزاهرة يخبرني عن مؤتمر أو ندوة تقام، وأسأل عن الحضور فيذكر اسم الشاعر التونسي “آدم فتحي”، والذي تعرفت على شعره من خلال البرنامج الذي يقدمه “عبد الكريم قطاطة”، وأرسلت مع “أحمد” رسالة للشاعر ومذكرة صغيرة، وحظيت بنص شعري مكتوب بخط يده و تحية وتمني بلقاء في أمسية بالجامعة والتاريخ هو: 29-3-88.
وسيجيئ الشاعر “آدم فتحي” في شهر أكتوبر من ذات العام، وسألتقيه وسأحظى بنص بخط يده في ذات المذكرة الصغيرة، فأي عام أنت يا (88).
كان النص الأول بعنوان (جمرة):
هي جمرة لم ينتبه أحد ليسألها عن اسم حبيبها
إن كان غادر قمحها
أو كان عاد
هي جمرة ولها هواها
تحضن العشاق كي يصلوا إلى عشاقهم
وتظل تنتهر السواد
كانت تحب ومثل بعض الناس كانت
لا يتم لقاؤها بحبيبها
إلا إذا صارت رماد.
وأما النص الثاني
فكان بعنوان
فرح
بكيت كلما رأيت من أحببت دمعتين
فدمعة لفرط ما حلا في العين .
ودمعة لأنني قد
لا أراه مرتين..
وبعد شهر سألتقي (أحمد الفيتوري، وإدريس بن الطيب، ونور الدين الماقني)، واتعرف على (شوقي بغدادي ومحمد على شمس الدين وسعيد حميد)، وسأسمع الشاعر “أحمد بشير العيلة” يلقي شعره بغضب وأيضا أتعرف على “أحمد دحبور”، وووااااوووو وسأرى “فاطمة محمود” لأول مرة وألتقط لها صورة مع الكاتب “محمد الزوي”، وتعرفت أيضا بالأستاذ “عبد الله مليطان”، ورأيت “ليلى النيهوم” و”خديجة الصادق” (هل أكرر كلاما كتبته سابقا؟)…
وهناك صور تؤكد هذه اللقاءات مع الشاعر “شوقي بغدادي” وأيضا مع الشاعر “بول شاوول”، ووو يا عام 1988م، كم أنت عام لا أستطيع إلاّ أن أتوهج حين تذكره، عام التقيت به (ماما خديجة الجهمي) واحتضنتها، عام تنفست فيه البلاد و حاول الفرح أن يدخل القلوب.
……
……
هو عام البنت التي كسرت قيدها وحلقت بجناحين من شغف و وعيّ، رشقت الوقت في عروة حقيبتها، وانتهبت كل ضحكة وصادقت المقاعد وأشجار الحديقة و عشقت المكتبة وايضا (كافتيريا، كلية التربية)،….
بعض من غضب وحنين ….
ربما لأني ابنة الصيف (صنو الضحك والوضوح)، وربما لأني من (برج الجوزاء) الهوائي المتحرك، وكوكبه (عطارد)، الذي يصوّر على هيئة محارب مستعد للهجوم ولكن بقدمين مجنحين، وأيضا هذا البرج الذي من حالاته عشق الضجيج واللقاء بالناس، وهل هناك مكان أجمل من (كافتيريا كلية التربية)، استمتع بشرب الشاي بالليمون وأتعرف على الطالبات والطلاب، موسيقى وطنين كأن خلية نحل تستعد للطيران، وقوفا جلوسا والضحكات، صديقاتي: سميرة وآمال وعواطف الفلسطينية. وسأتعرف على مجموعة من اليمن الشقيق والذين استغربوا معرفتي بأحداث اليمن عام 1986م، وأتعرف على (أسماء …. فلسطينية متوهجة مثقفة)، وعلى أخيها “طارق”، وأختها “ريـتا”، ومن خلالها تعرفت على الكثير من الشباب الفلسطيني والذي جاء أغلبه بعد (الانتفاضة) وأتذكر “باسل” شاب في العشرين من العمر تعرفنا عليه كمجموعة و الذي استمعنا منه الكثير من حكايات الانتفاضة، “باسل” الذي قرر أن يعود ليواصل المشاركة في الانتفاضة، والذي كما قال (لما جيت هون حسيت حالي مثل السمكة اللي طلعوها من البحر، رح اختنق) وعاد نهاية عام 1989م…
وذات يوم وكنا في حديث تكلم شاب من تونس، وكان يقول كلمة في (مجتمعنا بذيئة)، فانتحيت به لأخبره بذلك، ونواصل نقاشنا مع مجموعة الشباب الفلسطيني، وذات صباح جاء شاب فلسطيني ليحذرني من التحدث مع مجموعة منهم قال: هاذول شيوعيين…؟ وربما الحجاب الذي أرتديه أوحى له بشيء ما، ولكن الفزع أصابه وارتبك من إجابتي (هذوم أحلى ناس).. والحقيقة أني انزعجت منه لأنه بيّن لي شيئا كنت أقرأ عنه والاحظه ولكني لم أحب الاعتراف به، أن (الصف الفلسطيني) لم يكن واحدا وأن هناك خلافات عميقة وصراع، وأن الانظمة العربية تساهم في استغلال هذا الاختلاف…..
أمّا أصدقائي من مجموعة (أصبح الصبح)، فستكبر وسأتعرف على “عمر الككللي” و”إدريس المسماري” و”أم العز الفارسي”، التي سأعرفها وأحبها من خلال قصيدة “نصرالدين القاضي”، وأتعرف على (أولاد البشتي) من خلال حكايات يرويها “أحمد الفيتوري”.
وذات يوم أخبرتني صديقتي الشاعرة (كريمة….) إنها أرسلت لهم رسالة وقاموا بالرد عليها وكانت بهجتها غامرة، وقد كتبت لهم رسالة وتركتها عندها كي تعطيها لمن يوصلها لهم، وانتظرت ردا لم يصل…. ولا أدري هل وصلت رسالتي أم ضاعت في الطريق، ورأيت (عبد العظيم البشتي وزوجته) في لقاء خاطف بمجلة (لا) والتي سأحظى بتوقيع من “أحمد الفيتوري” و”إدريس بن الطيب” على أول عدد من هذه المجلة (لا) و سأقرأ لـ”منصور بوشناف” و”محمد الفقيه صالح” دون أن ألتقيهما، ولكن سأرى “بوشناف” لأول مرة جالسا على الأرض في (مسرح الكشاف) مع “مجاهد ونوري”، ولأن لي ذاكرة السمك (كما يقولون) لا أحتفظ بالأسماء وهكذا حين ذكر “مجاهد البوسيفي” اسم “منصور”، لم أتذكر أنه صاحب تلك المقالات التي ظلت إحداها تبكيني كلما قرأتها، وسأتعرف على “رضا بن موسى” و”أحمد بللو” أيضا سيغدو صديقي، و”السنوسي حبيب” و”فتحي نصيب، ووووو…. وسألتقي بالمبدع “جمعة بوكليب”، في مقر اللجنة الشعبية للتعليم بزاوية الدهماني في عام 1990م، وأظنه كان موظفاً هناك (وعرفتني به صديقتي جميلة)، وكنت أكمل إجراءات عودتي للتعليم بعد انقطاع ثلاث سنوات.
وهذا اليوم هو الثلاثاء 3/3/2020م، وإذا مرّت ثلاثون عاما وعانقهما عامان من حضور ذاك العام العجيب (1988) م. فكل عام وأصدقائي المبدعين الذين قضوا زهرة العمر وراء القضبان والجدران الصلدة، ولكنهم حين عادوا إلينا ملأوا مشهدنا الثقافي باختلافهم ومشاكستهم …
كل عام وهم الذين عرفتُ، أصدقائي الذين لهم أوسع غرفة من غرفات قلب هذه البنت (حواء).