فارس أحمد العلاوي -سوريا
أول لقاء جمعني بالدكتور علي فهمي خشيم(1) كان في الشهر الثامن سنة 2001 ، كان ذلك اللقاء صدفة ومن غير ميعاد ، فقد ذهبت في يوم من أيام ذلك الشهر لزيارة صديق لي من مدينة بنغازي يعمل في السفارة الليبية بدمشق ، فأخبرني أن الدكتور علي فهمي خشيم موجود في استعلامات السفارة ، وسألني هل تريد أن تسلم عليه . فقلت له : كنت أودُّ اللقاء به في طرابلس أو في مصراتة منذ سنوات ، لكن الظروف لم تساعدني ، وها هو يأتي إليَّ في دمشق بدلاً من أن أذهب إليه ، دخلت على حجرة الاستعلامات ، فوجدته جالساً ، فاقتربت منه وسلمت عليه ، وعرَّفته بنفسي ، وبمؤلفاتي ، وكنت حينها كتبت دراسة عن الأديب الليبي المعروف علي مصطفى المصراتي ، فأخبرته بها ، فسرَّ بذلك ، وقال لي : إن المصراتي سيسرُّ أيضاً بهذه الدراسة . فقلت له : لكني لا أعرف كيف أرسل نسخاً من الصحيفة التي ستنشر بها الدراسة إليه ؟ فقال لي : حين تعود إلى طرابلس تأتي إليَّ في مجمع اللغة العربية ، وتحضر معك تلك النسخ ، وأنا اتكفل بإرسالها للمصراتي . كان اللقاء بالدكتور علي فهمي خشيم ممتعاً ، وكنت أودُّ أن يطول أكثر ، لكن لا الظرف ، ولا المكان يساعدان على ذلك ، فسلمت عليه ، وودعته ، وقلت له : إن شاء الله ألتقي بك في طرابلس بعد أيام ، وهذا ما كان إذ فور عودتي إلى طرابلس ذهبت إلى مجمع اللغة العربية ، وحين سألت عنه علمت أنه لم يعد من سفره ، فتركت في المجمع نسخاً من الصحيفة التي نشرت فيها دراستي عن المصراتي ، وطلبت ممن استلم تلك النسخ مني أن يخبر الدكتور علي بأني سأتصل به بعد أيام . وهذا ما كان ، اتصلت به ، فسرني سماع صوته ، وحمدت الله على رجوعه سالماً ، واتفقت معه أن أذهب إليه في مجمع اللغة العربية في اليوم التالي .حين دخلت مكتبه قام الرجل بلباقته المعهودة ، وسلم عليَّ ، ورحب بي ترحيباً كبيراً ، وقال لي ماذا تشرب ، فطلبت كأساً من الشاي ، ثم قدمت له مجموعة من مؤلفاتي ، فسرَّ بها ، وقال لي : نسخة المصراتي وصلت إليه ، وهو مسرور بها . ثم تحدثنا عن مواضيع أدبية وتاريخية شتى ، وهكذا كان حالي معه كلما زرته في مكتبه في مجمع اللغة العربية بطرابلس ، في كل مرة كنت أزوره فيها كان يترك كل شيء ، ويفرغ نفسه للحوار معي ، كان الرجل كما رأيته لطيفاً ومتواضعاً ، والحقيقة أن ما يجمعني بالدكتور علي فهمي خشيم ، ليس فقط التخصص في مجال الفلسفة ، أو الكتابة عن الشيخ أحمد الزروق ، وتحقيق بعض مؤلفاته ، بل أكثر من ذلك ، ما يجمعني به أنني وإياه تركنا تخصصنا الفلسفي ، وتفرغنا للدراسات الأدبية والتاريخية ، فما قدمته من نتاج فلسفي وما قدمه هو من نتاج فلسغي ، لا يقارن بما قدمناه من نتاج في مجال الأدب والتاريخ ، وبطبيعة الحال فإن تنوع الاهتمامات ، يفرض نفسه على ما جرى بيني وبينه من حوار ونقاش ، فحواراتنا كانت متعددة ومتنوعة لا تقتصر على مجال أو جانب دون الآخر .
وأذكر أنه في آخر لقاء معه في مكتبه في مجمع اللغة العربية بطرابلس حدثني عن ظاهرة الأسماء الأجنبية التي وجدها منتشرة في شوارع دمشق ، وغيرها من العواصم العربية ، وأن هذه الظاهرة غير منتشرة في طرابلس لأن الدولة منعتها .لم تكن طرابلس هي المدينة الوحيدة التي التقيت فيها بالدكتور علي فهمي خشيم ، فقد التقيته أيضاً في مصراتة ، والحقيقة أنني رأيت إخوة الدكتور علي ، وتعرفت على أولاد أخته آل العاشي قبل معرفتي به بسنوات .موقف لا أنساه للدكتور علي فهمي خشيم في مصراتة ، فقد دخلت المستشفى المركزي فيها لإجراء عملية جراحية ، وكان الذي أجرى لي تلك العملية الدكتور الجراح نور الدين القصير جزاه الله كل خير ، المهم أن الدكتور علي حين علم أني في المستشفى ، جاء على الفور لعيادتي ، وجلس معي وقتاً لا بأس به ، وأوصى بي الأطباء ، وكان معه في ذلك الوقت شقيقه الأديب المعروف يوسف خشيم ، فأوصاه أن يهتم بي ، ولم يتركني يوسف حتى خروجي من المستشفى جزاه الله عني كل خير .كما كان أول لقاء لي بالدكتور علي فهمي خشيم في دمشق ، كان آخر لقاء لي به فيها أيضاً ، فقد علمت من الصحف أن ندوة سيقيمها مجمع اللغة العربية بدمشق ، وأن من حضور الندوة الدكتور علي ، فذهبت إلى المجمع ، وسألت عدداً من أصدقائي العاملين فيه : هل وصل الدكتور علي فهمي خشيم إلى دمشق ؟ فقالوا لي : وصل إلى دمشق ، وهو مقيم في فندق الميريديان (ديدمان حالياً) .في المساء اتصلت بالفندق ، وتكلمت مع الدكتور علي ، واتفقت معه على اللقاء به يوم غد صباحاً في الفندق ، وفي الوعد المحدد التقيته ، وقد آلمني أن الذي أمامي ليس الدكتور علي الذي أعرفه ، فقد كان متعباً جداً ، جلسنا في بهو الفندق ، روى لي رحلته مع المرض ، وأنه حالياً أفضل بكثير من قبل ، فدعوت له بالشفاء ، وقلت له : كنت اتمنى أن أبقى معك أكثر ، وأتحدث معك أكثر ، وأدعوك لزيارتي في بيتي ، لكن وضعك الصحي يحتم عليَّ أن أتركك لترتاح .سلمت عليه وودعته ، وبقيت أنظر إليه وهو يمشي حتى غاب عن عيني ، ومن تلك اللحظة غابت أخباره عني ، وعلمت فيما بعد أن حالته الصحية ليست على ما يرام ، وأنه يعالج في مستشفى الماني ، وعلمت بعدها أنه توفي في هذا المستشفى بعيداً عن وطنه ، وكان ذلك يوم 9 يونيو سنة 2011 ، فما كان مني حينها إلا القول : إنَّا لله وإنا إليه راجعون ، رحمك الله يا دكتور علي ، وغفر لك ، وجعل الجنة مثواك(2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدكتور علي فهمي خشيم علم من أعلام ليبيا في النصف الأول من القرن الماضي ، وحتى العقد الأول من القرن الحالي ، ولد في مدينة مصراته سنة 1936 ، درس المرحلة الثانوية في طرابلس وأتمها في مصراته ، حصل على ليسانس في الآداب تخصص فلسفة من كلية الآداب التابعة للجامعة الليبية في بنغازي سنة 1962 ، ثم حصل على الماجستير في الفلسفة من جامعة عين شمس في مصر سنة 1966 ، وأما الدكتوراه ، فقد حصل عليها كلية الدراسات الشرقية التابعة لجامعة درم البريطانية سنة 1971 .بدأ حياته العملية محاضراً في الجامعة الليبية ببنغازي سنة 1962 ، واستمر فيها إلى سنة 1975 ، انتقل بعدها إلى كلية التربية بجامعة طرابلس ، واستمر فيها إلى سنة 1987 ، وخلال عمله في التدريس الجامعي ، تدرج من محاضر إلى أستاذ مساعد ، فأستاذ مشارك ، فأستاذ كرسي ، ثم عين باحثاً متفرغاً بدرجة أستاذ في مركز البحوث الإنسانية بطرابلس ما بين عامي 1987 ـ 1989 ، وأستاذاً مشرفاً على الدراسات العليا في كلية العلوم الاجتماعية بطرابلس سنة 1989 ، وبالإضافة إلى التدريس تولى عمادة كلية التربية في جامعة طرابلس سنة 1975 ، ورئاسة قسم الفلسفة في كلية التربية ما بين عامي 1987 ـ 1988 ، وأخيراً كان عميداً لكلية اللغات بطرابلس ما بين عامي 1987 ـ 1988 .تولى عدداً من المناصب أولها وكيل وزارة الإعلام ما بين عامي 1971 ـ 1972 ، ووزير دولة ورئيس مجلس شؤون الثقافة في اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة ما بين عامي 1972 ـ 1975 ، وعضو المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) ما بين عامي 1978 ـ 1980 ، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 2003 ، وأخيراً أمين مجمع اللغة العربية الليبي ما بين عامي 1994 ـ 2011 .أنشأ ورأس تحرير عدد من المجلات والصحف : مجلة قورينا الصادرة عن كلية الآداب في بنغازي (1966 ـ 1972) ، مجلة الفصول الأربعة الصادرة عن اتحاد الكتاب والأدباء بطرابلس (1977 ـ 1980) ، وعاد ورأس تحريرها سنة 1988 ، مجلة أفكار الصادرة عن قسم الفلسفة بجامعة طرابلس (1987 ـ 1988) ، صحيفة الأسبوع الثقافي (1972) ، حولية المجمع الصادرة عن مجمع اللغة العربية .للدكتور علي فهمي خشيم مجموعة كبيرة من المؤلفات ، نذكر منها : النزعة العقلية في تفكير المعتزلة (1966) ، حسناء قورينا (1967) ، الجبائيان أبو علي وأبو هاشم (1968) ، نصوص ليبية (1968) ، قراءات ليبية (1968) ، الحركة والسكون (1973) ، زروق الصوفي (1974) ، أحمد زروق والزروقية (1975) ، دفاع صبراتة (1975) ، أيام الشوق إلى الكلمة (1977) ، ايناروا (1996) ، بحثاً عن فرعون العربي (1985) ، هل في القرآن أعجمي (1997) ، الفلسفة والسلطة (1998) ، هذا ما حدث (2004) . وهنا لا أنسى أن أذكر أن الدكتور علي خلال زياراتي المتكررة له أهداني مجموعة من مؤلفاته ، وقد استخدمت بعضها في أبحاثي ودراساتي .(2) كنت عزمت على كتابة دراسة موسعة عن الدكتور علي فهمي خشيم ، لكني لم أكتبها بسبب الظروف التي مرت بي ، وانشغالي بأعمال لم أنجزها ، ولعل ما كتبته من ذكريات عنه يكون فيه أقل القليل مما أكنه له ، وللصداقة التي كانت تربطني به .