المقالة

متلازمة بوتفليقة

بوابة الوسط

مصطلح متلازمة، أو التناذر، خرج في عالم الطب العضوي كوصف لحزمة من الأعراض المرضية والإشارات المتزامنة ذات المصدر الواحد، مما ينبه المعالج إلى أن ظهور إحداها يشي بوجود البقية، ثم انتقل هذا المصطلح إلى أدبيات علم الاجتماع وعلم النفس كوصف لظواهر اجتماعية أو سياسية ينخرط في أعراضها أفراد أو جماعات أو مجتمعات برمتها، ولعل أشهرها متلازمة ستوكهولم التي تُعرّف كسمة سلوكية للفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المخطوف مع المُختَطِف. أما على صعيد الجماعة فيمكن ملاحظة هذا المظهر على المجتمعات في علاقتها بالأنظمة القمعية، عندما لا تملك السلطة شرعيتها من أغلبية الشعب، فتصبح وسيلة الحكم القمعية ضاغطة على أفراد المجتمع، ولمدة طويلة. يطور خلالها الأفراد علاقة خوف من النظام، فيصبح المجتمع ضحية النظام، ويدرك النظام هذه الحالة مع الوقت، حتى يتقن لعبة ابتزاز المجتمع. فيعتاد الشعب على القمع والذل لدرجه تجعله يخشى من التغيير حتى وإن كان للأفضل ويظل يدافع عن النظام القمعى ويذكر محاسنه القليلة جدا دون الالتفات إلى مظاهر القمع والفساد الكثيرة.

داخل هذه الحالة العامة يمكن أن تبرز متلازمة فرعية تجسدها الحالة الجزائرية مع الرئيس بوتفليقة، تتمثل في أكثر من عَرَض: رئيس منتخب لأكثر من مرة يعتبر تقريبا ميتا سريريا، ولا يعي ما يحصل حوله، وحاشية محيطة تحتفظ بجسده على عربة وتصر على ترشيحه لمرات عدة رغم أنه معزول تقريبا عن الواقع وعاجز حتى عن خدمة نفسه، ومجتمع منقسم بين أغلبية مازالت مستعدة لانتخاب هذه الجثة لأعلى منصب في البلد، وأقلية تسمى معارضة لا تستطيع أن تقدم بديلا لهذه الجثة التي مازالت صورها القديمة تملأ الشوارع في كل دعاية انتخابية، ورغم تفشي هذه الظاهرة في ديمقراطيات العالم الثالث الشكلية، خصوصا النظم الجمهورية العربية منها، إلا أننا نتوقف عند الحالة الجزائرية كحالة وصلت فيها المتلازمة ذروتها، مع العلم أن هذه الأعراض قد تتزامن حتى مع رئيس مازال يتمتع بصحته ولم يغب عن الوعي بعد.

لكن ما الذي يقودنا إلى أن نصف هذه الحالة كظاهرة مرضية، نفسية، تصيب مجتمعا بأكمله؟ ولماذا يبقى شخص واحد ميت سريريا تقريبا هو المرشح الدائم وأحيانا الوحيد لقيادة أمة تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية معقدة؟

في المجتمعات التي لم تتحقق فيها حياة سياسية دستورية حقيقية قد يصل شخص عبر الصناديق إلى سدة الحكم، مع الوقت تتشكل حلقات مقربة من هذا الرئيس هي التي تُسيّر منظومة حكمه، ويصبح لها نفوذ قوي، ومع الوقت تتحكم فيه بدل أن يتحكم فيها، وتصبح هذه الحلقات هي أعلى الهرم الذي يقود الدولة، وعادة ما ترتبط هذه الحاشية بمصالح شخصية ضخمة يجعلها ترتكب الكثير من المخالفات القانونية دفاعا عن هذه المصالح، ما يُعرِّضها للمساءلة أو العقاب إذا خرجت من حيز صناعة القرار والتحكم في مجرى القوانين، وإذا ما تغير الرئيس الذي تكتسب نفوذها في ظله ستخرج من دائرة التحكم وتفقد مصالحها وحصانتها، وتمثل هذه الحاشية، سواءَ كانت عسكرية أو حزبية أو تكنوقراطية، العَرض الأول للمتلازمة، أما العَرَض الثاني فيمثله الرئيس المفصول عن الواقع الذي يتحول إلى دمية تتلاعب بها القوى المستفيدة من وجوده على رأس الهرم، وتوهمه مثلما توهم الكثير من الغوغاء أن وجوده هو الضمانة الوحيدة لوحدة الأمة وأمنها، أو لتحقيق إصلاحاتها الاقتصادية، أو غير ذلك من الحجج التي عادة ما تلقى أذانا صاغية من ممثلي العَرَض الثالث من الشعب متمثلا إجرائيا في من لديهم حق الإدلاء بالأصوات، المُصرين بغرابة على انتخاب الزعيم طالما يتمتع بالشهيق والزفير، مصابين بخوف عميق من فكرة التغيير أو المجازفة، فميت تعرفه أفضل من حي لا تعرفه (مع ملاحظة أنه حتى في النظم الوراثية الملكية المحترمة تنقل السلطة لولي العهد إذا كان الملك عاجزا عن القيام بمهامه)، بينما قوى المعارضة التي تشكل العَرَض الرابع للمتلازمة عاجزة عن التغلغل وسط عناصر المتلازمة المُحْكمة، وغير قادرة على إقناع الناخب المستلب تجاه وساوس الحاشية بالبديل الممكن.

تحوُّلُ الرئيسِ إلى مومياء أو دمية لا تعي ما يحدث حولها، ووسواس الحاشية القهري من فقدان الحظوة والحصانة في ظل الرئيس الخاضع لها، وفوبيا التغيير أو البديل لدى الناخب المخدر بفعل الميديا المتحكمة فيها السلطة، وعجز المعارضة عن التواصل مع الشارع والناخبين الخائفين من النظام والخائفين على النظام، والخاضعين لابتزاز السلطة لهم، تشكل في مجملها ما يمكن تسميته وفق النموذج الجزائري (متلازمة بوتفليقة)، وأعتقد أن هذه الحالة تصلح لأن تنفرد باسم المتلازمة كونها تراجيكوميديا حقيقة مشحونة بالفكاهة والحزن في الوقت نفسه، رغم اكتظاظ المنطقة والتاريخ بنماذج الحكام الذي يستخدمون الصندوق لإقامة الاستبداد، فمع خلل واضح في الدستور وفي مناخه السياسي والاجتماعي، ومع قدرة مستشفيات أوروبا على ترميم الجثة وجعلها تتنفس وقتا أطول، تستمر الشرعية في مشهد مضحك بقدر ما يفضي إلى شعور عميق بالحزن، ليس فقط حزنا على الديمقراطية حين تصبح مهزلة في مجتمعات تُسيّرها الخرافة والورع تجاه البَرَكة، ولكنه حزن على بوتفليقة نفسه، الضحية الأبرز لهذه اللعبة الهزْلية التي حولت زعيما تاريخيا إلى لوحة كاريكاتير، وهو في العرف الطبي قاصر وغير قادر على الدفاع عن نفسه وعن سمعته وعن حالته الإنسانية، ما يشكل بابا لتدخل منظمات حقوق الإنسان حمايةً له من هذا التلاعب والتعذيب الذي يشبه خطف الرهينة، أو يشبه إرغام طفل قاصر لا يستطيع المشي والكلام على العمل الشاق.

لا تبتعد متلازمة بوتفليقة عن متلازمة ستوكهولم الاجتماعية ذات البعد السيكولوجي التي يطور خلالها أفراد المجتمع علاقة خوف من النظام نتيجة القوى القمعية الضاغطة لمدة طويلة للحد الذي تتحول فيه، مع الوقت، رغبة الخلاص من النظام القمعي إلى خوف من نهايته. فهل ثمة أمل في الخلاص من هذه المتلازمة الخطيرة التي يدفع ثمنها المجتمع برمته، وكل عَرَض فيها يستلزم وجود الأعراض الأخرى، والتي بدأت تعمل بقوة حتى بعد ثورات الربيع العربي التي كان هدفها الرئيسي التخلص من هذه المتلازمة المَرَضية التاريخية؟.

بالتأكيد هناك أمل طالما أن هناك مجتمعات استطاعت تخطيها بعد أن عانت منها فترات طويلة، ويتمثل العلاج في دستور حقيقي يضمن سقفا زمنيا لفترة الرئاسة، محصنٍ، وغير قابل للتعديل، لأن التقديرات البيولوجية الحديثة تخبرنا من ناحية طبية أن لا شخصَ بإمكانه أن يحكم شعبا أكثر من 10 سنوات بشكل سوي، إذا كان يمارس مهام الرئيس فعلا.

قداسة الدستور، وإيجاد قواعد حزبية حقيقية في ظله قادرة على تكوين كوادر مؤهلة لقيادة الدولة وفق برامج عملية تقدمها، قد يُخلِّص رؤساء لاحقين، جاءوا عن طريق الصندوق وفق انتخابات نزيهة أو غير نزيهة ، من مصير بوتفليقة التعيس الذي تتلاشى كل منجزاته وتاريخه جراء هذا المشهد الدرامي الطالع من روايات الواقعية السحرية. فجوهر الديمقراطية وأساس الدساتير هو استيعاب فكرة تداول السلطة، ليس على المستوى الفردي للرئيس المنتخب فقط، ولكن على مستوى كل المحيطين به الذين يدركون مسبقا أنهم سيخرجون غالبا مع انتهاء ولاية أو ولايتي الرئيس العاملين ضمن إدارته كما يحدث في الدول المحترمة، وهذا الاستعداد للخروج من منطقة النفوذ والحصانة يجعلهم غالبا ملتزمين بالقوانين، وحذرين من ارتكاب أية جرائم، لأنهم على يقين أن وجودهم في منظومة السلطة مؤقت ولا يتعدى كونه وظيفة ضمن كادر الرئيس فترة ولايته الدستورية، وهم بالتالي معرضون للمحاسبة والعقاب كأي موظف في المجال العام.

مقالات ذات علاقة

بين سبتمبر وفبراير

علي عبدالله

علي حرب في نقده للصادق النيهوم في كتابه “الإسلام في الأسر”

المشرف العام

حَاجَة مَاجة فِي الشِّكْمَاجَة!!!

رضا محمد جبران

اترك تعليق