لا يعني العنوان أنهُ ثمة ما يميز الشعرية الليبية أو التجربة الشعرية في ليبيا (نعتـناها بالمسألة، كتعبيرٍ رياضي)، بمعنى التميز والتفرد، وإن كنت أزعم أن لكل تجربة ما يميزها عن الأخرى، خاصة ما يتعلق بالبدايات والمرجعيات المؤسِّسة لهذه التجربة، والتي تـتجلى في النتاج الشعري. والتي تظهر في بعض الرموز والمدلولات البعيدة في المحلية أو ذات الصلات الوثـقى بالشاعر، إذ تمنح اللغة العربية النص بعداً قومـياً أكثر منه إقليمياً، فالنص في المطلق مجموعة من الكلمات، أو لعبة لغوية ما ينسب تظل مجهولة الهوية إلا من طبعها (وهو الشعر). لنعد لموضوعنا.
ماذا نعـني بالمسألة الشعرية الليبية؟
نعني، مجموعة الحدود أو النقاط المهمة، للدخول إلى متن التجربة الشعرية الليبية، وهي مجموعة من الحدود أو الهوامش القادرة على رصد أهم اللحظات والتوترات، وكذا توصيف التجربة. وبالتالي فنحن نحاول رصدها بالوقوف عندها وقياس تأثيرها.
ويجب علينا الإلماح أن أكثر من جهد عمل على رصد هذه التجربة ومحاولة قراءتها، وقياس درجة فاعليتها في المشهد الشعري، لكن هذه الجهود هي جهود غير متخصص بمعنى إنها جهود حاول فيها كتَّابها رصد تجاربهم بنية سد الفراغ الحادث في الممارسة النقدية في ليبيا1، ودون أن ننسى الجهد الأكاديمي المتمثل في البحوث والدراسات المتخصصة، وأغلبها تعمل على رصد التجربة الشعرية ضمن نطاقِ تاريخي محدد وقفاً للدراسة والبحث المعد (وفقاً لمتطلبات معدة سابقاً)، ودون أن ننسى أيضاً جهود مجموعة من الكتاب الذين اهتموا برصد التجارب الإبداعية في ليبـيا. ولقد حاولت هذه الكتابات الوقوف على أم قضايا التجربة الشعرية، ورصد اللحظات المهمة، ونلمح _وكنت ناقشت هذا سابقاً_ أن الكثير من هذه الكتابات تناولت هذه المسألة بأكثر من وجهة نظر، ومحاولتنا هنا هي محاولة للوقوف على أهمها، وأبعدها أثراً في التجربة الشعرية الليبية.
– الـشـرق، الأستاذ الكبير:
يمثل الشرق بالنسبة للثـقافة الليبية النبع والمنهل الثـقافي الكبـير، فلقد كان الشرق الملجأ الأول لليبي خلال تاريخه الطويل، فلم يكن من المستغرب أن يكون المعلم الأول وصاحب الأثر الكبـير في الثـقافة، ونلمس هذا بشكل واضح في مقالة شاعر الوطن الشاعر “أحمد رفيق المهدوي”، المنشورة بمجلة (ليبيا المصورة) في العام 1937 والمعنونة بـ(المتجـبرنون)، والتي وجه فيها انتقاداً مباشراً لمقلدي أسلوب الشاعر والكاتب “جبران خليل جبران”، داعياً إلى نبذ هذا الأسلوب والأخذ بالأسلوب المصري أو المدرسة المصرية في التجديد.
وإن كان “رفيـق” يعلن بصورة واضحة انحيازه للمنبع، فإن الكاتب الكبير “خليفة التليسي” في سؤاله الكبير “هل لدينا شعراء؟” في العام 1952، يشير بشكلٍ واضح لطبع التقليد في الشعر الليبي، وهو يؤكد هذا أيضاً بمشاركة القاص “كامل المقهور” في مقدمتهما لمجموعة الشاعر “علي الرقيعي” الأولى (الحنين الظامئ)2. وفي ستينيات القرن الماضي، يصف أحد النقاد الشعر الليبي بأنه (شعر نواقيس وصلبان) مشيراً إلى أثر المشارقة، وخاصة ما كان يصل من إصدارات لبنانية. ولقد كانت التجربة الشعرية على موعدِ أخر، مع الشاعر “سعيد المحروق” عندما قدم قراءته المعنونة بـ(ظاهرة الاستلاب في ثقافتنا المحلية) والتي نشرها بصحيفة (الأسبوع الثقافي)3، والتي يعترف بها بالأثر الكبير للشرق، فيقول: (مازلنا مريدين أزليين للشرق الرائد، لازلنا نشعر جميعا بأن أقصي ما نطمح إليه هو أن نحتذي نموذجنا في مشرقنا الأستاذ ونقلده تقليداً جيداً)
ولقد رصد الدكتور “عوض محمد الصالح” في دراسته المهمة (الشعر الحديث في ليبيا)4 هذا الأثر بشكلٍ واضح، مدللاً بالعمل على مجموعة من نصوص الشعراء الليبـيـين، بقياس أثر مجموعة من الشعراء العرب في تجاربهم، والتي وصلت حد التـناص، كما قدمت هذه الدراسة رؤية شاملة للتجربة الشعرية الحديثة في ليبيا، وهي دراسة مميزة بحق.
– الوضع الاجتماعي والسياسـي:
لم تنعم ليبيا بنوعٍ من الثبات السياسي والاجتماعي إلا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وفرض القوات المنتصرة لسيطرتها على المناطق التي خرجت بها، ونستطيع القول أن نوعاً من الثبات السياسي والاجتماعي بدأت معالمه تتأكد في عهد الحكومة البريطانية، ويمكننا القول أن خمسينيات القرن الماضي هي البداية الفعلية لهذا الثبات، بالتالي ندرك العمر القصير لليبيا الحديثة مقارنة بقريناته العربيات، خاصة وإنه منذ منتصف القرن التاسع عشر لم تنعم ليبيا بالهدوء، وفي الفترة التي بدأت تشهد فيها نوعاً من الازدهار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي كان الإيطاليون قبالة السواحل الليبية، يعدون لقصف طرابلس وبنغازي. ونلمح إلى أنه رافق حالة الاستقرار هذه، حركة نزوح كبرى من البوادي والنجوع باتجاه المدن الرئيسية، ولم تعرف هذه الحركات اتجاهاً موحداً لها، لتكون هذه العجينة النواة لسكان المدن الرئيسية في ليبيا (طرابلس، وبنغازي)، كما عرفت البلاد حركة واسعة لعودة المهاجرين إبان فترات الاحتلال الطويلة للبلاد.
ولم يكن من إمكانية لهذا المجتمع لأن يكون نواته الثقافية، التي توزعت على مجموعة من العائلات والأشخاص، وتركزت في المدن، ونشير إلى أن نصيب الأسد كان للمعارف الدينية، ولنا أن نلاحظ الكثير من شعراء ليبيا الأوائل كانوا في الأصل _ونعني المرجعية الثقافية_ رجال دين (من أمثال: إبراهيم باكير، سعيد بن صالح، أحمد الشارف، عبدالرزاق البشتي،…). بالتالي لم يكن من السهل أن تتكون في مثل هذه الظروف أي مظاهر لحياة ثقافية مزدهرة، فكان الشعراء يعملون بشكلٍ منفصل كأفراد بعيداً عن الالتقاء في مظهر ثـقافي (تيار/ اتجاه/ مدرسة)، ولن ننسى العمل الكبير الذي قامت به الصحافة من تعريف المجتمع بوسطه الثقافي (ومازالت الصحافة الليبية تـقوم بهذا الدور)، وتعريف المثـقـفين بعضاً ببعض، لتتحول إلى راصدٍ وصوتٍ للحياة الثقافية في ليبيا.
– الفـردانيـة:
تعني الفردانية هنا العمل بشكل منفرد، بمعنى أن التجربة الشعرية في ليبيا لم تعرف أياً من مظاهر العمل الثـقافي الجماعي في شكل تيار أو مدرسة، أو اتجاهٍ شعري تعمل ضمن أفكار أو أهداف تحكمها.
هذه الفردانية هي المحصلة الطبيعية للعاملين السابقين، بمعنى أن الشعراء لم تـتوفر لهم القاعدة الثقافية التي تمكنهم من الانطلاق من واقعهم، فكان من الطبيعي أن يكون امتدادهم خارج الدولة الإقليم، باتجاه المنبع باتجاه الأستاذ، ناحية صقل التجربة وتفـعيلها، بالتالي أوجد هذا العمل نوعاً من العمل الذاتي المنفصل عن الجماعة، التي تريد لتكون:
1- مناخاً سياسياً واجتماعيا مستقراً.
2- تراكماً معرفياً غزير العطاء.
3- نهضة ثقافية-اجتماعية قادرة على إنتاج حراكٍ ثقافي خلاق، وكذا إيجاد نوعاً من المعرفة العامة لها.
بالتالي كان من الصعب على الجماعة أن توجد لنفسها قاعدة التقاء، (وكان من الطبيعي، أن تكون الفردانية طبع التجربة، مجموعة من التلاميذ في فصلٍ واحد، يتجاورون، يكونون فريق الفصل المنافس، وليس من الشرط أن يجمعهم مستوى إداركٍ معين (وهذا طبيعي)، ولا إتجاه واحد.. فالتجاور لا يعني وحدة التلاميذ تحت مسمى الفصل أو التلاميذ لهذا الفصل، فهذا الفصل مقسم إلى مقاعد يستقل بها التلاميذ، باتجاههم إلى الأستاذ ذاته)5، أو يمكننا إنتاج ذات المعنى في (وكما إننا نقر بأنه لا مدرسة ولا اتجاه قاد التجربة الشعرية في ليبيا، أقول أنه ثمة توحد في المصدر وفي المرحلة قاد التجربة الشعرية في ليبيا.. حيث يمكن تشبيه الأمر باليد الواحدة، لكل إصبع منها شكله ومكانه واسمه الخاص، وهم في مجموعهم يطلون في راحة اليد، ويجتمعون في قبضة)6.
– الـتواصل المفـقـود:
بالتالي لمْ يوجد هذا المناخ أيـاً من أشكال التواصل بين الشعراء، ونقصد بين أجيال الشعراء، وإن كانت مفردة الجيل مفردة غير حقيقية أو مفردة غير دقيقة لوصف الواقع الثـقافي أو التجربة الشعرية في ليبيا.
إن طابع الفردانية والعمل باستـقلال عن الجماعة، أو الالتـقاء في المجموعة، أوجد هذه الانقطاعات في التجربة الشعرية، فعملت الفراغات الحادثة على فصل التجارب الشعرية في فتراتها عن الفترات السابقة واللاحقة. فمثلاً، لا نعثر على أثر لشعراء الستينيات والسبعينيات عند شعراء الثمانينيات، ولا ما بعدهـم. والشعراء الليبـيـين يعون هذه الحقيقية ويمارسونها بكل حرية، ويؤكدون انقطاعهم عن ليبيا كـتجربة إبداعية، فأكثر من شاعر أكد هذا الانقطاع، يقول الشاعر “فرج العربي”: (أعتقد بأن تجربتنا تمثل قطيعة، وإضافة هامة في تاريخ الشعر العربي الليبي، بل أنها تقف بندية مع الأصوات الحقيقية في الشعر العربي، لأنها استمدت شرعيتها من تجاربنا أولاً، وإصرارنا على البوح، والتفاتنا إلي همومٍ صغيرة لم نقرأها في شعر من سبقونا)7.
ولو جمعنا ما يمثله هذا الانقطاع إلى طابع الفردانية، لوجدناه ينعكس في الشعراء كـكم، وكذا في الإنتاج الشعري، في كم النصوص المنتج، والذي يجعل من الصعب حقيـقة قراءة التجربة الشعرية الليبية والإحاطة بها.
– النـقد/الصـديـق الغـائب:
بالرغم مما أنتج من كتابات نقدية، إلا أن النقد لم يكن بالصديق المخلص للتجربة الشعرية، الصديق الرفيق/الخليل، ونكاد نجزم بالقول إن ما أنتج من نقد لم يكن بالنقد الإيجابي، بقدر ما هو أقرب للقراءة، فما أنتج من نقد _ومازال_ كان في أحد الأشكال الآتية:
1- قراءة لإرهاصات التجربة الشعرية:
أ/ كتجربة في العام، وكتب العديد في هذا ودائماً البداية هي ذاتها، الرصد هو ذاته، دون تعويل على إنتاج مرجعية يمكنها مراكمة النتاج النقدي.
ب/ في مجموعة من الشعراء الأوائل، بدارسة الظروف والأثر والنص.
2- رصد للمنتج الشعري بشكلٍ عام، أو رصد لأثرٍ مّا في هذه التجربة.
3- القراءات المرافقة لصدور المجموعات الشعرية، وكذا بعض النصوص المميزة.
ونشير إلى أن هذه الكتابات كانت الصحافة هي المعين الأول لها، ومقابل المطبوع منها في كتب، تظل الحسبة لصالح الصحافة، والتي بحق تمثل الحاوي الأكبر للثقافة والإبداع الليبي. بالتالي ظل هذا النقد عاجزاً عن البحث في النص الشعري بحيث يسهم في كشف بواطنه وإستظهار إمكاناته الجمالية، والقبض على أسئلته ومناقشة قضاياه.
– النـَّـص الضـائع:
قد لا يكون هذا التوصيف منصفاً، لكني أراه توصيفاً لما يعانيه النص أو النتاج الشعري الليبي، وهو الضياع بمعنى التـشتـت. هذا الضياع هو النتيجة المباشرة لضعف آلة النشر عن استيعاب المنـتج الشعري _وكذا باقي أشكال الإبداع_، وبلغة الرياضيات فإن حجم المخرجات (الكتب)، أقل من حجم المدخلات (المخطوطات)، وأقل بكثير، بحيث يظل الشعر الليبي موزعاً في الصحف والمجلات، في متنٍ يصعب حصره أو الإلمام به لمن يريد البحث خاصة لذوي الاهتمام، ولا تظل إلا مجموعة من المجلات لاعتباريتها يمكن التعويل عليها (مثل: الفصول الأربعة، الثقافة العربية،…). خاصة وإن العمل الصحفي في ليبيا عمل بعيد عن الاحترافية والخصخصة، فكم من صحيفة صدرت وتوقف، وكم من مجلة صدرت وتوقفت8. فينتهي النص سريعاً لتحتضنه علبة القمامة، وإن كان محظوظاً يذوب على زجاج أحد نواف البيوت، أو السيارات، أو يـبـيد كغطاء.
هوامش:
1- يمكن مراجعة (النّقـد والنّـقـاد، قراءة في واقع الكتابة النقدية في التجربة الإبداعية الليبية).
2- تعتبر مجموعة (الحنين الظامئ) للشاعر/ علي الرقيعي، أولى مجموعات الشعر الحديث في ليبيا، وصدرت في طبعتها الأولى في العام 1957، وصدرت بعدها بأشهر صدرت مجموعة (أحلام وثورة) للشاعر/ علي صدقي عبد القادر _شاعر الشباب_.
3- مقال (ظاهرة الاستلاب في ثقافتنا المحلية)- سعيد المحروق/ صحيفة الأسبوع الثقافي- العدد: 34- 2/2/1973.
4- د.عوض محمد الصالح (الشعر الحديث في ليبيا- دراسة في اتجاهاته وخصائصه)- منشأة المعارف بالإسكندرية-2002.
5- رامز رمضان النويصري (في مصطلح الجيل) مقال- صحيفة الجماهيرية- العدد:4466- 19-20/11/2004.
6- رامز رمضان النويصري (قصيدةُ النـثر- من التشابه إلى المُلاحظ) مقال- صحيفة الجماهيرية- العدد:4294- 30/4-1/05/2004.
7- – مقابلة مع الشاعر “فرج العربي”- مجلة الفصول الأربعة- رابطة الأدباء والكتاب الليبيين/ طرابلس- العدد:72_73- أكتوبر- نوفمبر 1994.
8- بعد المجلات صدر منها عدد واحد فقط، وبعضها صدرت رسائل بأسماء أعضاء وهيئة التحرير ولم تصدر، وأخرى صدرت ونفذت ولم تكن.
صحيفة القدس العربي_ العدد:5416 _ 27/10/2006
2 تعليقات
لقد قرأت هذه الدراسة قديما ضمن أحد كتبك النقدية الرائعة يا رامز.. نحتاجك هنا أكثر من هناك.. دمت مبدعا
أخي علي الربيعي
أشكر مرورك الكريم
حقيقة هو الوقت لا أكثر.. لدي الكثير من المشاريع لكنها تحتاج للوقت الذي لا أجده.
تحياتي