دراسات

إشكالية مصطلح الإيقاع

يمثل موضوع الإيقاع إشكالية في مجمل الدراسات الأدبية ، لا سيما تلك التي تُعنى بموسيقا الشعر وعروضه ، حيث تبدو دلالته هلامية ، غير واضحة المعالم والحدود، ولعل السبب الرئيس في هذا يعود إلى أن مصطلح الإيقاع Rhythm حديث عهد بميدان دراسة الشعر والأدب بصفة عامة، إذ إنه لم يدخل هذا الميدان إلاَّ في بدايات القرن الماضي، ولا يزال إلى اليوم قيد الدرس والبحث، ولم يقطع في كثير من القضايا التي أثارها برأي حاسم .

ومن المعلوم أن مفردة الإيقاع هي في الأصل مصطلح خاص بمجال الموسيقا والألحان ، لكنها في هذا العصر تعدّت هذا المجال، ودخلت إلى كل العلوم والفنون تقريباً ، وأضحى لها معنى مجازي يدل على التتابع والانتظام الذي يمكن الإحساس به وملاحظته في مجموعة من العناصر كالأصوات اللغوية والموسيقية ، ونبضات القلب ، وحركة الجسد أثناء الرقص ، والخطوط والألوان في الرسم والتصوير والنحت وغيرها، كما تدل على معنى التناسب والتناظر والاختلاف الذي يظهر في بعض مظاهر الطبيعة كاختلاف الليل والنهار، وتوالي الساعات والأيام والسنوات ، وقد شاع في الكتابات المعاصرة وعلى الألسنة تعبيرات استعارية من مثل ( إيقاع الحياة ـ إيقاع العصرـ إيقاع الشارع ) ، للتعبير عما يحسه المرء من تتابع وانتظام أو اختلاف في هذه العناصر.

ومنذ أوائل القرن الماضي أخذ موضوع الإيقاع يلقى اهتماماً من قبل المهتمين بموسيقا الشعر العربي ، وقد ظهرت دراسات كثيرة في هذا المجال حاولت استكناه طبيعة الإيقاع الشعري وأنواعه ومظاهره ، وذلك من خلال دراسة ومراجعة عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي ، والاستعانة بعدد من العلوم كعلم اللغة وعلم الأصوات وعلم الإيقاع وغيرها، وقد رشح عن هذه الدراسات مجموعة من المفردات ترادفت مع مفردة الإيقاع وأخذت دلالتها ، ومن بينها الوزن ، والجرس الصوتي ، والنبر ، والتكرار المقطعي وغيرها .

كما ظهرت مجموعة من التعريفات ، لعل أهمها تعريف الدكتور محمد الهادي الطرابلسي الذي عدَّ الإيقاع ظاهرة صوتية تقوم على (( توظيف خاص للمادة الصوتية في الكلام ، يظهر في تردد وحدات صوتية في السياق على مسافات متقايسة بالتساوي أو بالتناسب لإحداث الانسجام، وعلى مسافات غير متقايسة أحياناً لتجنب الرتابة )) ، ومن هنا فالإيقاع الشعري يتأتى من تنظيم الأصوات اللغوية وتتابعها في نمط زمني معين .

وقد دأب دارسو الإيقاع الشعري على البحث في صفات وخصائص هذه الأصوات ، وانتهوا إلى أن لكل صوت لغوي ثلاث صفات تميزه عن غيره من الأصوات ، الصفة الأولى هي العلو Loudness ، وبها يُدرك طول الصوت أو قصره وإمكانية نبره وإبرازه ، والصفة الثانية هي الدرجة Pitch ، ويدرك بها درجة نغمة الصوت ، والصفة الثالثة هي النوعTimbre، وتحدد جنس وعمر ناطق الصوت ، وهذه الصفة في الواقع لا علاقة لها بدارس الإيقاع ، لأنه لا يتعامل إلاَّ مع النص الشعري المكتوب .

غير أن من المهم القول إن هذه الصفات الثلاث إذا انتظمت فيما بينها ينتج عنها عناصر إيقاعية ، من بينها ما يسمى في الاصطلاح اللغوي بالمدى الزمني Duration، ويقصد به المدة الزمنية التي يستغرقها نطق الصوت، ومن تعدد الأصوات، وامتداد مسافاتها يتكون المقطع الصوتي Syllable، والعنصر الثاني هو النبر Stress ، أو الارتكاز Ictus ، ويعني علو الصوت اللغوي بمده أو تقصيره أو ارتفاعه أو انخفاضه ، نتيجة لضغط الهواء المندفع من الرئتين ، بحيث يصير أكثر بروزاً من غيره من الأصوات .

ومن هذين العنصرين يتحدد نوع الإيقاع ، فبعض اللغات تتميز بأن الشعر فيها يعتمد على نظام المقطع مثلاً أكثر من نظام النبر، لذلك يطلق على الإيقاع فيها الإيقاع الكمي Quantitive أي الإيقاع الصادر عن عدد المقاطع وترتيبها، وبعض اللغات الأخرى كالإنجليزية مثلاً تعتمد على نظام النبر، وحينها يسمى إيقاعها الإيقاع النبري أو الكيفيQualitive ، وهو يقوم على نبر المقاطع .

لذلك ارتأى دارسو العروض أن وزن الشعر العربي ينبغي أن يقوم على نظام المقطع الصوتي بدلاً من نظام التفعيلة، لأن عدد المقاطع وتواليها أو نبرها يوفر إمكانية لإبراز الإيقاع أكثر مما توفره التفعيلة بحروفها المتحركة والساكنة .

وقاد تفكير القائلين باعتماد المقطع أساساً للوزن الشعري إلى البحث عن طريقة ملائمة للنبر ، ولعل الدكتور كمال أبو ديب من أوائل الباحثين الذين سعوا إلى إنشاء بديل جذري لعروض الخليل يقوم على المقاطع الصوتية المنبورة ، بدلاً من الحروف المتحركة والساكنة، ففي دراسته ( البنية الإيقاعية للشعر العربي ) أولى موضوع النبر أهمية قصوى ، واسترسل في بيان مفهومه وطبيعته وأنواعه وطرائق تطبيقه، وعدَّهُ الأساس الذي يقوم عليه الإيقاع الشعري ، لكن برغم ما امتازت به هذه الدراسة من جدية وموضوعية ورصانة علمية ، فهي لم تخلُ من صرامة المنهج وصعوبته ، بحيث تبدو إمكانية تطبيقها عملياً على مدونة الشعر العربي غير مأمولة في الأمد القريب .

وعلى كلٍ فإن ثمة دراسات أخرى اتسعت رؤيتها لمفهوم الإيقاع ، فلم تعد ترى فيه ظاهرة صوتية مقصورة على الوزن أو النبر، بل بنية مركبة من عدة عناصر تشمل النظام اللغوي بمستوياته المتعددة العروضية والصرفية والصوتية والنحوية والتركيبية والمعجمية والدلالية والبلاغية .

وهذه العناصر تتفاعل فيما بينها في نسيج المتن الشعري ، بحيث تتأكد علاقة المعنى بالصوت، وعلاقة الموقع العروضي بالموقع التركيبي ، وفي هذه الحال لن يكون الإيقاع تلويناً صوتياً معزولاً عن سياقه .

ولمَّا كانت لغة الشعر تتميز عن لغة النثر بأنها لغة تنتظم فيها الأصوات بطريقة فنية، فإن هذا الانتظام ينتج مستويين من الإيقاع ، المستوى الأول : إيقاع يصدر عن الإطار الخارجي للقصيدة ، ونعني به الوزن والقافية، ويشمل كل ما له علاقة بهذا الإطار كالقافية والروي والزحاف والعلة والتصريع ، فهذه جميعها عناصر إيقاعية.

والمستوى الثاني إيقاع يصدر من داخل متن القصيدة ، ويمكن إدراكه من خلال فحص ومراقبة حركة الأصوات والمفردات والتراكيب في نسيج هذا المتن ، ومدى انتظامها أو تناظرها أو تجانسها أو تكرارها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ في مفهوم الإيقاع ، الدكتور محمد الهادي الطرابلسي ، حوليات الجامعة التونسية ، عدد 32 ، 1991م .

2 ـ في البنية الإيقاعية للشعر العربي، الدكتور كمال أبوديب ، دار العلم للملايين ، بيروت، الطبعة 1 ، 1974 م .

3 ـ العروض وإيقاع الشعر العربي، الدكتور سيد البحراوي ، الهيئة المصرية للكتاب، 1993 م .

مقالات ذات علاقة

النص بين النقد واللسانيات الحديثة – رمزية الوجه في رواية (اللحية) لسالم العوكلي

عبدالحفيظ العابد

مفردات سريانية في العاميّة الليبية (7/ 8)

عبدالمنعم المحجوب

تاريخ العملة الليبية

المشرف العام

اترك تعليق