د. مروة متولي-مصر
يكاد يجمع أغلب النقاد على أن علاقة القارئ العربي بالشعر لم تعد تلك العلاقة الصحية المرجوة ، حتى ليقول البعض بأن الشعر قد بدأ ينسحب من حياتنا ، ومساهمة منا في إضاءة بعض الإصدارات الشعرية التي تحتاج إلى اكتشاف متجدد والتي تظهر في فترة زمنية صعبة وفي مشهد نقدي راهن تستأثر فيه الرواية بنصيب وافر من النشر والقراءة والمتابعة النقدية ، سننأى إذن بضع خطوات عن السرد لنقترب أكثر من الشعر ومن عوالمه المدهشة ، ونبدأ هذه السلسلة من الإضاءات بديوان الشاعر الليبي محمد القذافي مسعود ” لمختلفين في نعناع النظرة ” الصادر عن منشورات المؤتمر بطرابلس.
القذافي مسعود صوت شعري له نبرته المميزة ، فهو صوت جاد وحقيقي يحمل في ثناياه هماً إنسانيا وجماليا ، يتمثل ذلك في بعض جوانب من إحساس الشاعر بالكون والحياة وكذلك في استخدام اللغة ورسم الصورة ، فنحن حين نطالع ديوانه ، تأخذنا اللغة والإيقاع الداخلي بقدر ما يأخذنا عمق الأفكار ورهافة المشاعر في مجموعة من القصائد المتميزة التي تحتمل أكثر من قراءة.
نلاحظ في هذا الديوان أن الشاعر يلتزم جانب الاقتصاد في العبارة والتركيز في الصورة ، فقصائده لا تطول كثيراً ، وهو ما منح الديوان كثافة في المعنى ، فيبدو على تركيزه هذا ثرياً بما ينطوي عليه من فنيات ورؤى ، وتتراوح موضوعات القصائد ما بين الحزن المشوب بالسخط من الواقع الذي يبدو تغييره مستحيلاً ، والعلاقة بين الفرد والأرض حيث تصبغنا الأمكنة بهويتها ، كذلك العلاقة بين الفرد والآخر الذي نتوسل فهمه لنا وتواصله معنا ، كما تنطوي قصائد هذا الديوان في مجملها على إدانة كبيرة للحاضر ويأس من المستقبل ، حتى وإن كان هناك بعض من الروح التحفيزية في بعض الأبيات.
أكثر… أقل
برتابة أكثر… بفرح أقل
نرتمي على وساد التكسر
نجري خلف أفعال
شقراء أو سمراء
نغازلها بشتائم تليق بها
ولا نحظى بقبلة من خيبة
الرتابة ، الجمود ، الركود ، الركض وراء الزمن المحبط المثبط للهمم والقاتل للآمال ، نلمح صدى هذه المعاني في أكثر من قصيدة في هذا الديوان ، وتدور قصيدة أكثر/أقل في فضاء الأمنيات المستحيلة ، في هذا الراهن المثقل بالمشاكل والعوائق ، هذا الذي يجعلنا نرتمي على وساد التكسر.
ظلال الوهم الوردية
أهيم شارداً وراء
فكرة صغيرة
بمدينة ضائعة
ومتاهات صانعة الظلال
ظلال الوهم الوردية
برغم الزحام والاكتظاظ
أجدني تائهاً
يمتطي جواد الريح
دراهم قد لا تكون ثمن
تأخذني حيث يولد السراب
مأوى الهموم
واغتراب القلب في وطنه
سؤال يحتاج شحن الذاكرة
وبوابة عبور
سؤال مغتال
وجواب ميت
على لسان حكمة
أوجدها منطق الخواء
عاقل من فرط ما احترس
أكلته الظنون
ظلال الوهم الوردية من القصائد اللافتة في هذا الديوان ، هي قصيدة عن هذا العاقل الذي أكلته الظنون من فرط ما احترس ، هذا التائه الهائم وراء الفكرة في المدينة الضائعة ، المنفصل برغم الزحام والاكتظاظ ، يتبع ظلال الوهم الوردية التي تصنعها المتاهات ، يمضي باحثاً عن جواب ميت لسؤال مغتال ، حتى الحكمة فلم يوجدها إلا منطق الخواء ، نجح الشاعر بهذه الصور في رسم متاهة مفرغة تحوي في فراغها هموم إنسانية وأسى كوني.
بانتظار أن يعلن الجديد
أعقد العزم حولي
دائرة
شدها مشنقة
إرخاؤها منفى
يتسع بضيق
حين يدنو الضيق
لأب يلقي ظلاله علينا
ينتشي أسياد الليل
يصدحوننا بالغناء
والخطابات
عند أول الفجر
نهاية العيد
بانتظار أن يعلن الجديد
يطلق صيحته الأخيرة
فحل يشيخ
ملك القطيع
وسيد الإناث
حين لا فحل سيد
هنا يعبر الشاعر عن ضجر الانتظار ، وهو ليس الانتظار الآمل المنفتح على الوعود ، بل هو الانتظار اليائس ليس فقط مما هو مفرح بل اليأس من أن يكون هناك جديد أصلاً ، فعنوان القصيدة بانتظار أن يعلن الجديد عنوان دال يوحي بالكثير ويتماس مع واقع الفرد والجماعات والأوطان ، ثم يصف لنا الشاعر تلك الدائرة الرهيبة التي هي في أسوأ أحوالها مشنقة وفي أفضلها منفى ، هذا الضيق الذي يتسع ليضم الجميع في قبضته ، ولا يكفي هذا ، فيصور لنا الشاعر أسياد الليل / أسياد الظلام المنتشين بهذه الحال والمنتفعين منه أيضاً ، يختتم الشاعر هذه القصيدة بما يشبه الحكمة ، حين يقول ” وسيد الإناث حين لا فحل سيد ” ، هذا الافتقاد للفحولة هو افتقاد لمن يكسر الدائرة ويعلن الجديد.
مضيت بين أربعين غربة
وتجرعت المرارة الأربعين
سلكت الآمن إلى سكان الصدر.
طرقت أبوابهم
فخرجت الملوحة على
لسان الهباء.
يعبرون بضجرهم فوق سري.
آه ما أثقلني.
هذه الأبيات من قصيدة لوز المعنى ، وفيها يطغى أسى الشعور بالاغتراب والوحدة ، فما بين أربعين غربة وأربعين مرارة يمضي الشاعر حاملاً ثقله ، فالشاعر بآهته تلك يعبر عن معاناة الانفصال عن الآخرين وانعدام الفهم والتواصل وهو ما يزيد الشعور بالغربة ، هذا الوحيد الذي عليه أن يبقى وحيداً حتى وإن طرق الأبواب وإن أطلق الكلمات ، فلن يأتيه الرد سوى على لسان الهباء.
أشعر بك تنفضينني
عنك كل صباح
ما أقسى حضنك البارد
فيك ليلي يتخشب
كما نهاري يصدأ
غ رر ي اا ه اا ن.
غريان هي بلدة الشاعر وهي المدينة الجبلية التي تبعد عن العاصمة الليبية طرابلس مسافة 90 كيلو متراً كما يوضح الشاعر في ديوانه ، وقد اختصها الشاعر بهذه القصيدة القصيرة والتي عنوانها غريان ، ويختتم الشاعر قصيدته بالاسم ذاته في ما يشبه الصرخة ، وهو ما يدلنا على علاقة الشاعر بالمكان الأول وما له من مكانة في النفس وما له كذلك من سلطة يسعى البعض إلى الفكاك منها ، فعادة ما يترك المرء بلدته الأولى انطلاقا نحو مكان آخر بحثاً عن التطور والانعتاق من كل ما هو خانق ومقيد ، في هذه القصيدة يخاطب الشاعر بلدته ، يحدثها ، ثم ينتهي صارخا ، صرخة تحمل من المعاني الكثير ، فهو ربما يصرخ بحبه لها على الرغم مما تمارسه عليه من قسوة وتسلط ، وهو ربما يصرخ من فرط اختناقه ، كما أن تلك الصرخة ربما تكون محاولة للاقتراب والبحث عن غريان البلدة الأم وعن حضنها الدافئ الذي يفتقده الشاعر ، بل هو يقاسي برودة احتضانها له وطردها له بأن تنفضه عنها في كل صباح ، وربما كانت صرخة الشاعر في نهاية قصيدته هي رغبة في فك ذلك الجمود ، وكأنه يريد أن يهز تلك البلدة ، أن يخلخل هذا الركود وأن يوقظها من ذلك الموات الذي يخشب ليله ويصدئ نهاره.