ما يزالُ الغمُوض أو اختلافُ الدلالات يكتنفُ مفهُوم العولمة في تناوله وتداوله بين الباحثين والمُفكرين في ساحة الفكر المعاصر، غير أن هذا الغمُوض أو الاختلاف في الدلالات، إنما هُو راجعٌ في أحد جوانبه لاختلاف الرُّؤى والمواقف وتعدُّد المناهج المعرفية والسُّلوكية وتبايُن التوجُّهات الفكرية لمن يتصدَّى لظاهرة العولمة بالتحليل والنقد…وفي هذا الجانب يرى بعضُ الباحثين أن هذه الظاهرة فُرِضَتْ على العالم من قِبَلِ “الآخر” المُتقدم، بهدف السيطرة والهيمنة، وهي تسيرُ وفق منطق الغرب (الأمريكي) على وجه الخُصُوص، ومما يخُدُم أهداف العولمة ويعملُ على تزييف الوعي بها إضفاءُ صفة العالمية عليها، في حين أنَّ العالمية حركة إنسانية تعملُ على خدمة البشرية، والتقارب بين الشعوب، دون المساس بهوياتها الثقافية وخُصُوصيَّاتها.
ولذلك تثُور المخاوفُ لدى العديد من المُفكرين والباحثين أن تؤدي العولمة الثقافية – التي تدعُو لتبني ثقافة عالمية واحدة في كُل المجتمعات – إلى ضياع الهوية الثقافية الوطنية، وحُدُوث حالة من الاغتراب الثقافي لمُختلف الثقافات، مما آثار الجدل بين المُؤيدين لتلك المزاعم، وبين الرافضين لها. فمُعطيات عصر العولمة من ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات والتدفق الهائل للمعارف والأفكار والمعلومات عبر العالم، أصبحت – في العديد من جوانبها – تُمثل تهديداً للهويات الثقافية لكثير من الأمم، خُصُوصاً وأن في ثنايا عناصر العولمة الثقافية الراهنة يتم ترويجُ مجموعة من القيم والأفكار الجديدة كثقافة الاستهلاك والموسيقى العالمية وغيرهما، بهدف تأسيس هوية ثقافية أخرى للمجتمعات (المستهدفة) تهدد هويتها الثقافية باتجاه فرض نمط ثقافي معين، تنتجه مصالح الأقوياء عبر كل الوسائل المتاحة من إعلام وإنترنت وغيرهما، وهنا يؤكد بعض الباحثين أن العولمة ليست غزواً اقتصادياً بل هي غزو قومي، بمعنى أنها تهديد هوية أمة لهوية أمة أخرى، ولهذا فحماية الهوية الثقافية هي الهدف الأساسي المطلوب تحقيقه في هذا العصر، فالتعدد والتنوع في الهويات والمنظومات الثقافية هي من سمات الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها، لذلك ثمة رفضاً عالمياً لسياسة الهيمنة التي تحاول الدول الكبرى فرضها على دول الجنوب، بيد أن البعض يرى أن العولمة في حد ذاتها قد أثبتت أن الهويات القومية لن تندثر، بل بإمكانها أن تتناغم في إطار حياة مشتركة يتعايش فيها العالم بحيث تصبح العولمة دعوة للتعايش، وليس أداة للتنافر والاستعداء، أي أن هذه الهويات الثقافية هي التي تشكل المجتمع العالمي الذى يجب أن يسوده السلام والرغبة المشتركة في التعايش السلمي، واحترام كل طرف لخصوصيات الطرف الآخر، عندها فقط يصبح العالم المعاصر بالفعل مكاناً آمناً يتسع لعيش الجميع معاً بسلام ووئام.
_________________
مقالة الأربعاء 30/12/ 2009 بصفحفة أراء وأفكار بصحيفة قورينا